تُُرى ما وجه المقارنة بين الخطيئة و القبيلة؟ أو دعونا نسأل سؤالا دقيقا: ما الإثم الذي تحمله القبيلة كي تعزا لها الشرور والاضطرابات؟ أليس من الفداحة بمكان إلصاق كل ماهو رجعي إلى جدتنا (القبيلة)... علام تستدلون في إسناد عاهات العصر إلى جبينها وكأنكم خرجتم من بطن لاتيني أو أصفر. «ألستُ أنا القرشية بنت القرشي؟».
وهكذا دواليك تجد القبيلة غائصة حتى العظم بالعتاب وقد أدركت ان أبناءها لم يعد يروق لهم التبرك بأضرحتها بعدما وجدت نفسها طريحة الفراش في دار العجزة. لكنني قبل الخوض في غمار هذا الموضوع الشائك أحيلك إلى الموسوعة الشاملة، لنتبين ماهية القبيلة: «القبيلة رابطة اجتماعية تنشأ عن الاسر عندما يزداد عددها، وهي منشأ العصبية وهي مفيدة وضارة في آن واحد، القبيلة مفيدة لما توفره من حماية لافرادها وما تنشره من طمأنينة بينهم ولكنّها ضارة لأنّها تؤكّد النزعة الأقليمية، وتذكيها، وتذكي نار العداوة وتغذّي الفتن وتشجّعها.والقبيلة عندما تتجاوز وظيفتها كأداة للتعارف، ليست أكثر من وعاء للعصبية ، يدفع حماسها إلى العدوان. المجتمعات المكوّنة من قبائل يصعب أن تبنى فيها حياة مدنيّة ناجحة ولذلك فان الدّول التي يتكون نسيجها الاجتماعي من قبائل ، دول ضعيفة، لأن الإحساس بالانتماء هو الّذي يقوّي الكيانات ، و في المجتمعات القبلية يغلب الإحساس بالانتماء للقبيلة على الإحساس بالانتماء لغيرها.كما ان القبيلة وحدة هلامية يقوم الانتماء اليها على الاعتقاد الخرافي في الاشتراك بين ابنائها في الاب الاسطوري والحقيقة ان روابط الدم ليست المحدد بل التواجد داخل المجال و التحالفات القبلية والاستقرار والتوافد هي الروافد المشكلة للقبيلة كوحدة سياسية دنيا وبدائية تتولى مهمات التسيير لشئون المنتمين اليها داخليا وفي علاقتهم بالغير الاجنبي». (موسوعة ويكبيديا).
ولعل تهمة العصبية وعبادة العرق الواحد التي ابتليت بها بعض الأمم كالفارسية والتركية والسامية...إلخ، كان للقبيلة العربية نصيب منها.
ويجب الوقوف مطولا إزاء تلك التهمة التي أُلصقت بالقبيلة لمعرفة دوافعها ومبرراتها -وهذا الأمر أحسبه محالا نظرا لضيق المساحة المخصصة للبحث- بيد أني أكتفي بما ذكره قبلي كبار النقاد والكتاب عن بدء هيمنة التعصب لكل ما هو عربي قح.
إن التاريخ القديم عموما والشعر خصوصا يحدثانا ان العرب كانت أمة جاهلية، لم تكن تفقه في حياتها إلا الغزو وتقاليد الصحراء والشعر بطبيعة الحال... إذا كانت تلك الخصائص الثلاث كفيلة بان توحد أبناء القبيلة، فتعدُ محاولات الانفتاح على الأمم والمصائر الأخرى أمرا بشعا غير مستساغ، حتى اذا جاء الاسلام حبب لنفوس تلك القبائل المتقوقعة على ذاتها ان تنصهر و تتآخى مع الآخر: «وجعلناكم شعوباُ وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم»(الحجرات:13).
لم يكن سهلا على البدوي و باعتراف القرآن بضرورة خلع عاداته التقليدية و المضي قدما نحو التغيير...فقتل العادات المتوارثة في نفس البدوي معناه وأد لكرامته ولنفسه، فبدت محاولة التحضر والإقبال على المدنية أمرا مفزعا يشي بفتك سلالي لا يرغبه العربي عموما والبدوي خصوصا :»الأعراب أشد كفرا ونفاقا و أجدر الأ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله حليم حكيم»(التوبة:97).
ولما كان المجتمع الجاهلي آنذاك غارقا بعبادته للأصنام ظهر على حين غرة ذلك الرجل القرشي (محمد)، داعيا إياهم تجنب أزلام لا تنفع ولا تضر والتوجه إلى من هو أحرى بالعبادة وهو الله عز وجل... ولاقى النبي ما لاقى إثر تلك الدعوة التي تستهين بتراث آبائهم و جدودهم، فبات من الصعب ٌإقناع ذلك الجاهلي في ليلة و ضحاها نزع تلك العباءة «الرثة» التي هي محل إجلال وتقديس لديه.
كان الشاعر الجاهلي المتحدث الرسمي باسم قبيلته وكان بديهيا عليه أن تفزع نخوته و أن يكون محل ثقة قبيلته في الذود عما يمس كرامة معتقداتهم، كانت للشاعر إبان تلك الفترة هيبته حتى إذا ما درت القبيلة أن هنالك شاعرا نبت في إحدى خيمها راحت تحتفل به وتشد على يده، متبارية فيما بينها حتى بات تفريخ الشعراء عند القبيلة بمثابة المجد الذي لايضاهيه شرف آخر. والظاهر أن الشعراء وعبدة الأوثان وقفوا وقفة رجل واحد ضد الدعوة الجديدة، وليس هذا بالأمر المستغرب، فالنبي حارب قريشا وشتم أوثانها و أمر اتباعه أن يولوا وجوههم في الصلاة صوب بيت المقدس...معنى ذلك أن الحج سيبور وأن قريشا ستخسر ويخسر معها الشعراء الطامعون بمالها.
وعن ذلك يقول المستشرق والمؤرخ نيكلسون: «إن الشعراء كانوا من أعدى أعداء النبي في بدء الدعوة، فقد كانوا يسخرون من دينه ويقاومونه...».
و إزاء تلك الدعوة التي أتى بها النبي محمد(ص)، وما تبعها من صد ورد كان لزاما على القرآن أن يجابه تلك الحملة الشرسة التي جوبهت بها الدعوة بحملة أخرى أشرس منها، فالقرآن يدرك أن للشعراء الجاهليين تأثيرا شديدا على دخول الناس في الدين الجديد ومن ثم تصبح الحاجة ملحة الآن لزعزعة ثقة الناس بتلكم الفئة التي ظلت تؤرق مفاصل الدعوة الإسلامية، حتى أن القرآن ذهب إلى أكثر من ذلك حينما أفرد سورة لتلك الفئة، فيقول الله ناعتا تلك الفئة «والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم ترهم انهم في كل وادٍ يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون. الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»(الشعراء:225).
واستمر هذا السيناريو بين أنصار الفئة المؤمنة (الحداثية) والمضلة (التقليدية)، وحين أشطر بين الفئتين وانعتها بالمؤمنة الحداثية تارة والمضلة التلقليدية تارة أخرى، فليس يعني هذا بأني أقاضي إيمان كل منهما بقدر ما أصنف قابلية الفئتين للتشكل الجديد والانغماس في الموضة الجديدة، فالأولى أيا كانت دوافعها وصدق نواياها بدخولها الإسلام فإنها استطاعت أن تكسر حال التجمد والأنا القبلي المحيطة بها ومدت يدها لمصافحة للآخر دون أن تشعر أنت بعلو كعبها على الضيف الجديد. وأما الأخرى فجمدت في مكانها، واختارت لنفسها عبادة الذات والتمسك بعادات الأجداد والتبرك بأضرحة الماضي والإمساك عن كل ما من شأنه انحدار القيم الأصيلة.
وحتى مع دخول بعض أفراد العشيرة الجاهليين إلى دين الله الجديد لم تكن لتنفرج عنده عقدة الحنين للأيام الخوالي، حتى يخيل إليك أن ذلك العربي دخل الإسلام مكرها لا مخيرا، فيقول نيكلسون في هذا الصدد: «فبدلا من تمجيد الانتصارات الرائعة التي تمت على أيدي المسلمين المجاهدين، أخذ الشعراء يبكون على أطلال مخيمات البادية، ويتغنون بركوب البعير الذي لا يسبقه سابق على فيافي الرمال، ويخاطبون الخليفة كأنه شيخ بدوي من شيوخ ذلك الزمان القديم».
مأسسة الإصلاح عند المشيخة العربية
لم تحتمل العشيرة العربية دعاوى التجديد في خلايا الفكر الإسلامي التي بشر بها بعض المتنورين الذين راحوا يشاطرون الناس رؤاهم وأفكارهم، فالتاريخ يحدثنا مثلا عن معاناة أبي العلاء المعري وكيف أنه خرج على النسقية والقالب الجاهز المعهود حين ألف كتابه «الملعون» الموسوم باللزوميات فتعرض وقتذاك وربما إلى وقتنا الحاضر إلى الطعن في إسلامه و إخراجه من الملة وصولا إلى الحلاج الذي ما زالت آلامه حاضرة في كل من يجرؤ على الرفض و مجادلة القوم فيما يحسبه غلوا أو هراء أو ما شابه ذلك... لكن قد جنى ذلك الصوفي على نفسه وهو يبيح لنفسه التفكر في الله كما يرى هو لا كما يرى أبوه أو جده، إذا فهو رجل يستحق التقدير كونه لم يأتمر بما أملته عليه القبيلة أو الحارة، بالتالي قهر ظروف أقرانه حتى انتفت عنه صفة التبعية التي استنكرها القرآن بشكل أو بآخر «إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون» (الزخرف:23).
فالحلاج إذا كان شمعة تحترف الحرية، لم تدم طويلا لأن القوم الذين حاربوا النبي ذات مرة في دينه هم انفسهم الذين يحاربون الحلاج والمعري والتوحيدي.
جميعهم قاموا بمحاولات الإصلاح داخل العمق الديني، لكن تلك المحاولات لم تجلب معها إلا هتك الأرواح ونسف الاجساد، فكيف يجرؤ المعري على دخول منطقة محرمة لايصح لمثله الدخول فيها، كان ابو العلاء جرئيا في طرحه الديني في «اللزوميات» إلى حد جعل القبيلة تنتقم لنفسها على هذه الوقاحة، فذهبت توبخه نفسيا وتنعته المخرف تارة والزنديق تارة أخرى، فزاد ذلك من عزلته داخل بيته حتى مات غريبا.
وإننا إذ نذكر تلك الأمثلة التي أتت بطرح معتدل عقلاني لا ينفي الوجود الرباني أو صفة مشابهة لذلك، فإننا لا ننكر في الآن نفسه ظهور مفكرين على نحو ممسوخ لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نرضى به من غلو لا مبرر له سوى أنهم طبقوا النصيحة الذهبية «خالف ... تعرف».
العدد 1728 - الأربعاء 30 مايو 2007م الموافق 13 جمادى الأولى 1428هـ