العدد 1732 - الأحد 03 يونيو 2007م الموافق 17 جمادى الأولى 1428هـ

أيام في موسكو برفقة البحريني الأخير

المترو / الحديقة / باص رقم 4/ المشي لخمس دقائق فقط

من الصعب أن ترى في موسكو عصابات المافيا تتجول على الطريقة الأميركية، من الصعب أيضا أن تحملك مشاهدها نحو مخيلتك التي بنتها لك أجهزة الإعلام هنا وهناك. أما ما يمكنك أن تتوقف عنده طويلا هي تلك الكلاب الضالة التي يبان عليها «الترف» وكل ما في الأمر أن «الروس» تركوها في الشارع إذ أخفقوا في أن يكونوا رأسماليين حقا.

«تنتظرك الحيوانات عند الباب مباشرة» بهذه الكلمات يرد جاسم المطوع - البحريني الأخير والوحيد في موسكو - غاضبا على سؤالي ما إذا كانت المسافة بين بوابة الحديقة وأقفاص الحيوانات قريبة!، فيما يدخل رئيس جمعية الصحفيين الزميل عيسى الشايجي في نوبة من الضحك في ساحة 1905 على مقربة من الباص رقم 4 الذي يمثل لنا «بر الأمان» باتجاه الفندق.

تمثل حديقة الحيوانات للسياح معلما من معالم السياحة في موسكو إلا أنها بالنسبة الينا كنصف سياح فهي منتصف الطريق، فمنها وإليها تنطلق رحلاتنا إذ تعهد جاسم المطوع لعب دور «المرشد السياحي» اللطيف إلا انه مرشد من نوع خاص، إذ تقتضي ممارسة فعل «السياحة» مع جاسم أن تعيش الحياة بطبيعتها من دون ترف.

الباص رقم 4 هو الباص «الوحيد» الذي يقلنا إلى الفندق، أما محطة المترو فهي نقطة الانطلاق في جولاتنا اليومية إذ نتنقل من جهة لأخرى. لدى جاسم حالة عدائية مع سيارات «التاكسي» لذلك كان لابد وان تكون أغلب تنقلاتنا مشيا على الأقدام حتى الإنهاك. وبعد المشي لما يزيد عن عشرة كيلومترات في يومنا الثالث كان لي أن أسأل بواقعية عن المسافة بين بوابة الحديقة وأقفاص الحيوانات وخصوصا أن جاسم نفسه كان قد اخبرنا أن الحديقة كبيرة جدا وأنها تقارب في مساحتها حديقة برلين!، في الحقيقة لم أزر حديقة برلين إلا أن تعابير وجه جاسم وهو يقول «تماثل أو تزيد عن حديقة برلين» كانت تحمل لي رسالة سيئة.

كيف تستطيع قراءة هذه الكلمة mezhdunarodnaya، حاولنا ذلك مرارا حتى وصولنا لباب الفندق لنجد أن «الروس» لا ينطقونها حتى بما اتفقنا عليه. والأدهى من ذلك، أننا بقينا طوال الرحلة نحاول قراءة هذا الكلمة ولم نفلح حتى ساعة خروجنا من الفندق إلى المطار الذي يبعد قرابة الساعة.

موسكو التي نزورها للمرة الأولى للمشاركة في اجتماع الجمعية العمومية للاتحاد الدولي للصحافيين IFJ كانت مغايرة لما كنا نتوقع. لم يكن في خلد واحد منا أن تكون «واثبة» إلى ذلك الحد الذي تزدحم فيه مطاعم «ماكدونادلز» بالرواد، صحيح أن كلمة «ماكدونالدز» تكتب هناك بـ «الروسية» إلا أنه ذلك لا يغير شيئا من زحف العولمة الأميركية لموسكو بما يشمل سيارات «الهامر» التي شاهدناها على هيئة سيارة «ليموزين»!

أرجوحة الهاشمي والمطوع

رجلان كانا يمثلان «المركز» في رحلتنا خلاف الجلسات الرسمية «المملة» في «كونغرس العالم» كما كان الاتحاد الدولي يعنون مؤتمره، الأول: هو عضو جمعية الصحافيين التونسيين الزميل الهاشمي نويرة الذي كان فاكهة المؤتمر لمهاراته الثرية في إدارة عمليات التفاوض/ التأويل/ التحالف/ التخاصم/ التحليل/ التهديد الانتخابية للمجموعة العربية. أما الثاني فهو صديقنا جاسم المطوع الذي كان له أن يتخصص في أن يجعلنا بحسب تعبيره «أكثر صفاء ذهنيا» مقارنة ببقية الوفود التي كان يمثل لها خارج الفندق منطقة للمافيا والقتل.

المطوع كان سيد نهارات موسكو التي كانت تمتد بنا حتى العاشرة مساء إذ تبدأ الشمس في الغروب! أما المساء الصغير الذي يمتد للرابعة صباحا فكان الهاشمي فقط محوره الأول والأخير وكذلك الساعات الأولى من المؤتمر إذ تبدأ جلسات المؤتمر في الانعقاد.

كان الزميل الهاشمي نويرة طوال أيام المؤتمر يحذر ويتوعد المجموعة العربية من الاستهانة بقوة الأوروبيين الذين يوجهون في كل عملية انتخابية ما يزيد على 125 صوتا. وكان لنا في المجموعة أن نعقد الكثير من الاجتماعات الجانبية مع «دينمو» المجموعة تارة ولجميع الوفود العربية و»إيران» التي تحسب مع المجموعة العربية جغرافيا تارة أخرى. الانتخابات انتهت بنجاحات عربية جيدة من رئاسة المؤتمر التي ذهبت إلى الزميل «جيم بو مليحه» المرشح الأوربي العربي الأصل مرورا بالنيابة الثانية للرئاسة التي ذهبت للمرشح العربي المغربي الزميل «يونس مجاهد» وصولا لتجديد الثقة بالمرشح العربي الفلسطيني في اللجنة التنفيذية للاتحاد الزميل «نعيم طوباسي».

المترو ... شاهد الإنجاز الشيوعي

يقول جاسم «هذه احدى مكتسبات الفترة الشيوعية»، ويضيف «يستفيد خمسة ملايين راكب من هذا المكتسب الكبير كل يوم في موسكو»، يمثل المترو للروس ما هو أكثر من مجرد وسيلة للنقل، وبه من المضامين السياسية الكثير التي كان جاسم يرمي بها على مسامعنا بين فينة وأخرى.

كنا نستقل الباص رقم 4 وصولا لمحطة المترو التي تهبط بنا تحت الأرض وترتفع نزولاَ وصعودا حتى 750 مترا تحت الأرض وكان جاسم يحذرنا المرة تلوى الأخرى من الوقوف في الجهة اليسرى من الدرج ذلك أنها مخصصة لمن يريد مسابقة «الوقت» وكان لنا أن نلتزم بآداب المترو خوفا أن يرمى أحدنا من أعلاه وكان مرمى البصر يخبرنا أنها سقطة لا ترد ولا تغتفر.

لا تعتبر محطات المترو في «موسكو» مجرد نقاط التقاء تقليدية بين خطوط السير التي كانت تمثل بالنسبة لنا ما يشبه «الأحجية» العصية على الحل، وهو ما تسبب أكثر من مرة في أن نفقد المحطة الصحيحة للنزول بمعية جاسم نفسه الذي كان يتذرع أحيانا بـ «السرحان» و»عدم الانتباه» إلا أننا كنا ندرك أنه مر بحالات «ضياع» لم يكن من اللائق أن نكشفها له.

يقول جاسم «يعتبر المترو العصب الرئيسي للمواصلات، ويستفيد منه المتقاعدون وصغار السن من دون رسوم. تحاول الدولة خصخصة كل شيء وهو ما لا يعجب شريحة كبيرة من الروس، هذا المترو تمت خصخصته إلا أن المطالبات الشعبية أبقت حقوق المتقاعدين من دون أن يمس بها مد الديمقراطيين الاقتصاديين».

المترو مربوط بشبكة الكترونية تنظم سير القطارات ولا التوقيت لا يرحم، فأبواب القطارات تغلق «بقوة» فالثواني هنا مهمة، وكان علينا أن نزاحم خمسة ملايين روسي أمام بوابات الكبائن. وكانت ابتسامات الروس لنا تحمل سؤالا واضحا «ماذا يفعل سياح في مترو موسكو تحت الأرض» إلا أن أحدا منّا لم يكن يملك الإجابة سوى بالنظر لجاسم المطوع الذي كان يبتسم ابتسامة عريضة تخفي من وراءها ما يزيد عن الستين عاما من العمر قضاها مناضلا سياسيا ورجل أعمال وراكب مترو لا يكل ولا يمل.

لكل محطة مترو في موسكو تسمية خاصة تمثل دلالة خاصة ومعمارا مغايرا يميزها عن الأخرى. وتمثل محطة 1905 مرحلة البدء في الثورة الأولى، أما أجمل المحطات فقد كانت محطة السلام العالمي «نوفوسلفوسكيا» التي بناها ستالين العام 1936. تأتي بعدها محطة روسيا البيضاء «بيلاروس» إذ تحمل بعض المحطات تسميات الدول الأعضاء السابقة في الاتحاد السوفياتي المنحل. وللثقافة نصيب ومحل أيضا إذ تحمل بعض المحطات أسماء لكتاب وشعراء وفلاسفة روس، زرنا منها محطة الكاتب والأديب الروسي «تشيخوف»( 29 يناير/ كانون الثاني 1860- يوليو/ تموز 1904.

تهبط بنا السلالم الالكترونية لمسافات طويلة تحت الأرض تمتد مدة الانتظار لما يزيد عن الـ 3 دقائق، نسأل بخبث واستفزاز: لابد أن من بنى هذه المحطات في الأسفل كان ديكتاتوريا؟ وكأنها عقوبة بناء الأهرامات في مصر؟! يرمقنا جاسم بنظرات نفهم منها امتعاضه من السؤال كامتعاضه حين أجبرناه عنوة على الدخول لماكدونالدز إذ اكتفى بشرب عصير «البرتقال» قائلا: «لا يجوز أن يصورني أحد ما وأنا في هذا المطعم هذا المرة الأولى والأخيرة!».

غلاء موسكو وضفتا أربات

يقول جاسم «يشتكي الروس من الغلاء، فنسب التضخم مرتفعة، صحيح أن الرواتب زادت مرة ومرتين بالضعف إلا أن ذلك لم يغير من الوضع الكثير». وتصف سيدة روسية - التقيتها في أحد المجمعات وكانت شغوفة بالحديث معنا بالإنجليزية التي كانت تتقنها على غير عادة الروس - قدرة الروس على معايشة هذا الغلاء بأنه «سر روسي لا يستطيع معرفته أحد» وتطلق ابتسامتها التي لا تستطيع تمييزها بالباردة أو المنزاحة عن الحديث في السياسة.

يقول جاسم «تعتبر موسكو اليوم من أغلى المدن العالمية على الإطلاق، البعض يقول إنها أصبحت أكثر غلاء من طوكيو فالمتر الواحد من أية شقة للتمليك يزيد ثمنه عن الخمسة وعشرين ألف دولار». وكذلك الحال بالنسبة للمواد الغذائية والسلع الاستهلاكية.

لاحظنا عناء الأسعار على شارع «أربات» خاصة. وهو شارع تجاري سياحي له ضفتان. الضفة الأولى تمثل «النسخة القديمة» من الحياة الروسية حيث تنتشر المحال التجارية القديمة و»الأكشاك» التي لاتزال تبيع صورا وتماثيل وملابس ممهورة برموز أو صور «الحزب الشيوعي» و»لينين» و»ماركس» و»جيفارا» وبما يشمل «نياشين» مسروقة من «الجيش الروسي السابق»، الواضح لدينا أن «الروس» لايزالون في حال قلقة بين التجربتين عموما.

تنتشر على النسخة القديمة من شارع «أربات» مجموعة من «العازفين» الذين يلقون بقباعتهم أملا في تكريم ألحانهم التي يعزفونها للمارة تنتشر كذلك عروض «مسرح الشارع» الفكاهية، والكثير من الرساميين المغمورين والبعض من الصعاليك الذين غابوا عن مسرح الحياة بعد جرعات طويلة من «الفودكا».

الزميل عيسى الشايجي كان مهووسا بالبحث بين أرجاء الشارعين عن الكاميرا الروسية المشهورة zenet «زينت»، وكنت أكرر عليه مقولة «حضارة سادت ثم بادت» لكنه كان يهمل مقولتي حتى وصولنا لإحدى المحال التجارية التي كانت تضع علامة «زينت» أعلاها لنكتشف أن المصنع أغلق أبوابه أمام مّد الكاميرات الرقمية «اليابانية»، وأن اللوحة أعلى المحل مجرد حديث للذكريات.

أما الضفة الأخرى من الشارع فتمثل صورة «العولمة الأميركية» إذ تنتشر المطاعم والمقاهي والماركات الأميركية والأوربية تزاحمها «الكازينوهات» الخاصة بلعب القمار، وعلمنا أن مقار لعب «القمار» كانت أضعاف ما رأينا مطلع التسعينات حتى تم تنظيم عملها وإغلاق معظمها بعد أن تبينت الحكومة الروسية أن عصابات خارجية هي من تمولها بهدف ضرب المواطن الروسي في «القمار»!

يقول جاسم «لا يعيش الروس حالة عدائية مع دخول العولمة الأميركية لكنهم اليوم بدأوا الحديث مجددا عن الامبراطورية الروسية والخصوصية الروسية». أما بخصوص «الكنيسة» التي لمحنا لوجودها حضورا معتبرا في شتى الأنحاء فيؤكد جاسم أن حضور الكنيسة لايزال «رمزيا» ما خلا أنها تداخلت مع الدعوات الأخيرة بوصفها رمزا مقترنا بزمن وشرعية الإمبراطورية الروسية وتاريخيتها.

المشي في شارعيَ «أربات» كان قدرنا/ عقابنا اليومي الذي كان جاسم يفرضه علينا، أما محطة الاستراحة فكانت إحدى مطاعم «الشاورما» التي كنّا نرتاح فيها أملا في إستعادة ما تبقى من عزيمة.

مشينا في يومنا الأول من الفندق لشارع أربات على أقدامنا وهي مسافة لا تقل عن 10 كيلومترات. وكان صديقنا جاسم المطوع يعيد كلما حدثناه عن دقائق المشي المتوقعة عبارته الأسطورية «خمس دقائق» لنكتشف لاحقا أن الخمس دقائق ليست سوى عبارات «مجازية» وأنها تتحول لساعة من المشي ويزيد.

في اليوم الثالث من الرحلة، رفعت بطاقة التصويت معترضا على جاسم الذي برر استراتيجياته بقدرته على تخطي المسافات على رغم عمره في ظل عجزي على رغم صغري في السن مقارنة به، وكذلك الحال بالنسبة للزميل عيسى الشايجي الذي أقر أخيرا - بعد مزايدته - بعجزه مطالبا جاسم بـ «خارطة طريق» لأي من مشروعاتنا المستقبلية خصوصا بعد أن أخطأ جاسم تقنيا في اصطحابنا لمطعم كان يقع خلف فندقنا مباشرة إلا أنه مضى بنا في مسيرة مشي استغرقت 30 دقيقة بداعي المرور بداخل حديقة كان الزميل عيسى الشايجي يقول إنه يشتم فيها رائحة خشب «الدارسين»!

هذه الساحة «حمراء»

كان احتجاج جاسم قويا حين سألته عن حقيقة أن روسيا تعتبر مصدر تجارة الجنس حول العالم، احتجاج جاسم ألقى بتبعاته على «السياسة» مؤكدا أن تجارة الجنس «الروسية» لم تصل لما هي عليه اليوم إلا جراء التحول السياسي نحو الرأسمالية إذ جاع الكثيرون ولم تبق سوى خيارات ضيقة منها المتاجرة بالجنس.

يضيف جاسم «يربطون بين صفة (الحمراء) لساحة الكرملين والثورة الشيوعية أما الحقيقة أنها سميت بالحمراء لأن لون قرميدها «أحمر» لا أقل من ذلك ولا أكثر».

في بداية الساحة الحمراء وعلى مقربة من بوابة الكرملين القديمة يقف الجندي المجهول تعبيرا عن تكريم 20 مليون روسي حصدتهم الحرب العالمية الثانية بأيامها المّرة. بعدها يرقد لينين بسلام فيما يغلق على مقربة منه متحفه الخاص من دون أن يكشف عما سيحل محله. أما أجمل ما في الساحة الحمراء فهي كنيسة «الساحة» والتي تشبه قلاع الأطفال الخيالية، يقول جاسم «حين تم الانتهاء من بناء الكنيسة دعا الإمبراطور رئيس البناء وسأله عما إذا كان باستطاعته تصميم كنيسة مقاربة لها أو أجمل منها وحين أكد ذلك أمر الإمبراطور الروسي بفقأ عينيه!».

آخر أيام موسكو

لم يكن لنا في يومنا الأخير إلا أن نكتفي بزيارة سريعة للمحطة والباص رقم 4 ذاتهما. ذلك تعبيرا منا لمصالحتنا لعذابات «المشي» على رغم صعوبتها. وأمام دعواتنا المتكررة لجاسم المطوع أن يكون في البحرين كان لجاسم أن يعدنا بزيارة قريبة على رغم أن جاسم المطوع لايزال بلا منزل في البحرين ولايزال طلبه للحصول على مسكن بعد كل هذا العمر مجمدا، يقول جاسم «لا بيت لي في البحرين، وأكره أن أحل ضيفا على أحد مع عائلتي لكن إن قدر لي القدوم فسأكون سعيدا بلقائكم مرة أخرى».

غادرنا «موسكو» وهي في طقس «حار» نسبيا، وكانت النشرة الجوية تشير إلى أن درجة الحرارة ستكون في الغد منخفضة جدا (15 درجة مئوية) وهو ما جعلنا وبقية الوفود نتساءل عن الملابس الثقيلة التي اصطحبناها أملا في «الثلج» الذي لم نره لكننا لمسناه صدقا في عين البحريني الأخير في موسكو جاسم المطوع.

العدد 1732 - الأحد 03 يونيو 2007م الموافق 17 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً