فتح الخياط الإنجليزي «جون دين» الإنجيل في نهاية ثلاثينات القرن السابع عشر، ليكون السطر الأول مما سيقرأه محددا لما يجب عليه أن يفعل، كانت العبارات تقول «تعال من بينهم جميعا ولا تمس شيئا غير نظيف وسأكون إلهك وستكونوا شعبي». لم تكن هذه الكلمات إلا دعوة مفتوحة أمام «جون» ليغادر صوب الساحل الشرقي لأميركا، إذ عليه، أن يكون مستعدا للمساهمة في مقولة «الرب» التي امتثل لها.
ترك الخياط «جون» للأميركيين سيرته، يقول المؤرخ الأميركي لويس بيري «ترك لنا مذكرات عن أسباب هجرة إنجلترا ذات العلاقات والمعالم البارزة فكان من الأسباب: الفوضى الجنسية والإحباطات الاقتصادية والأمل الديني». وأمام هذا الحشد «الديني» كانت ثمة فسحة أخرى في «نيو انجلند»، لربما كان اختصارها قول أحدهم هنا على شاطئ نيوإنجلند الذي يزدحم بالمهارجين الجدد «إننا لم نجئ العالم الجديد من أجل الدين، لقد كان همنا الشاغل هو صيد السمك».
كان رجال الدين «القساوسة» والقادة السياسيون تحديدا في نيوإنجلند الصورة الوحيدة للثقافة الأميركية في بدء رحلتها الطويلة. وكان البيورتان «المتطهرون» من أمثال الخياط «جون» الصورة الأهم في النشأة الثقافية الأميركية.
نيو إنجلند «الرحلة المقدسة»
كانت أولى المهام أمام مستعمرة نيوإنجلند هي إنقاذ الهنود الحمر من اتباع الشيطان، وذلك بتعبير لويس بيري، وكان خاتم الشركة المديرة لمستعمرة خليج مساتشوستس ممهورا بعبارة واضحة «تعالوا إلى هنا وساعدونا». يقول بيري «لم يكن القساوسة من يمجد حقا ذلك الشعار، وكان من أولئك المجدين جون إليوت من روكسبري الذي كان يؤم الصلوات وترجم الانجيل إلى لغة الجونكوين. وقد أمكن استدراج بعض الهنود الذين تركوا قبائلهم ووجدوا لهم مساكن على الطراز الإنجليزي». كانت الأمور تسير على ما يرام في مساتشوستس قبل نهاية القرن السابع عشر إذ تحولت محاولات التنصير السلمية لحرب دامية.
كانت حركات مدينة الهنود الحمر ونصرتهم سلسلة في البدء، ولم تمر مراحل التنصير بعوائق تذكر ما خلا المنهج التعقيدي البيورتياني «التطهيري» الذي أدى بالإضافة لثنائية «المدني» من نيوإنجلند و»البربري» الهندي الأحمر، إلى أن تأخذ الأمور منحى مختلفا، أقل ما يوصف به، أنه دموي عانى منه السكان الأصليون أكبر المعاناة. كانت الأمور في نيوإنحلند تسير بوتيرة أفضل عما كانت عليه الحال في المستعمرة الكبرى الثانية «فرجينيا». وتورد المثير من القصص على شاكلة مذكرات صديقنا الخياط «جون» في نيوإنجلند ملامح مكثفة من مجمل الحراك الثقافي الذي كان تراكمه يتلخص في بداياته في حدود «الحلم» الفار من إنجلترا وباقي دول أوروبا إلى مستعمرات «الحرية» و«العدالة» و«الصدق» و«الثراء» من جهة، وإلى سلسلة المهام المسيحية الكبرى في تحقيق وإنجاز وإتمام دولة «الله» التي كان الخياط «جون» قد هاجر لها منذ البدء.
البنية الاجتماعية في نيوإنجلند
لا بد وأن لا نعتبر من الملامح الأولى لنشوء الإمبراطورية الأميركية ملامحا مقدسة على المطلق، أو حتى أنها كانت تعتمد على أي من مضامين الحرية «المطلقة». كان مجتمع نيوإنجلند - ونأخذ توزيع الأراضي نموذجا - متاخما لحدود العدل في التوزيع أولا، ومراعاة الفروق بين الطبقات ثانيا. يقول بيري «وبعد سنوات من التجربة والخطأ استطاعت نيوإنجلند أن تطور قانونا للأراضي نظمته السلطات المستعمرة، وكان يختلف عن النظام الإنجليزي بكون كل أسرة أصبحت كل مالكة للأرض، وبذلك أصبح كل مزارع فلاحا قويا ومعتبرا... وعند سكن موقع صدبري العام 1639 مثلا، تلقت المدينة قطعة أرض كبيرة ممسوحة مسحا جيدا، وقد أخليت من أي مالك هندي قد قضت اللجنة الثلاثية قيام المدينة بعد أن قسمت الأرض على خمسين مالكا ورتبت درجاتهم، القس أولا، ثم من بعده حسب الوجاهة والثروة والنفع والتميز».
يدل السلوكان الإجتماعي والإقتصادي في توزيع أراضي المدينة الجديدة في نيوإنجلند على أن ما كان مستترا خلف بدء الإمبراطورية هو سياسة «تمييزية» ضد الهنود الحمر أولا، وإلى سياسة طبقية قسمت المهاجرين أنفسهم وفق معيارين، معيار «لا هوتي»، وأخر رأسمالي نفعي. الصورة التي بدأت بهذه السياسة التقسيمية سرعان ما واجهت الكثير من الاهتزازات التي حركها الأميركييون الجدد، وسرعان ما نددت بعض المدن الجديدة والولايات الناشئة بتلك السياسات التمييزية. على الأرض، وبعد نزوح هذه السياسات لأن تكون سياسات قارة وثابتة، «أصدرت حكومة مساتشوستس وكوننيلكتوكدت قوانين ضد أغنياء الفجأة ممن يرتدون أفخر الملابس، وأعربت حكومة مساتشوسيتس عن كراهيتها المطلقة واشمئزازها أن يقوم رجال ونساء ليس لهم إلا حظ قليل من العلم وفي أحوال الناس الوضيعة والحرف الفقيرة بإرتداء ملابس الأماثل ولبس أساور الذهب والفضة وأزرارها».
ويصف المؤرخ الاميركي كينيث لوكيريدج تلك المرحلة النصف كمالية، كما يقول لويس بيري، بأنها «مسيحية، طوبائية، ويجتمعان في منظمة مغلقة». ويعلق بيري على ذلك بقوله «إن تمدن هذه المراكز الأمامية كان شيئا استثنائيا ولم يكن ثمرة تطور تاريخي دام قرونا ولكنه نتيجة أمر مفروض منظم على تلك البرابري. ويضيف «لقد كانت المدن تحتفظ ببعض العلامات التاريخية التنقليدية كإحترام الرجال الكهول وإخضاع المرأة الخدوم ولقد طورت المدن مؤسسات لترسيخ فكري التوحيد الديني والطاعة للقانون وإعتبارا من أربعينات القرن السابع عشر كان يطلب على المدن توفير تعليم عام يتيح لجميع الأطفال، القدرة على القراءة وفهم مبادئ الدين والقاوانين الأساسية الكبرى للبلاد».
في نيوإنجلند كان الملاحدة غير مرحب بهم، وكذلك الغرباء. كانت نيوإنجلند أشبه ما تكون بالمجتمع المغلق، وعلى رغم أن القوانين في نيوإنجلند لم تمكن المتطهرين من فرض رسوم وضرائب القساوسة على الأميركيين قسرا، إلا أن جل النقاط والمدارس التعليمية كانت تتمركز حول الكنائس، يقول بيري «حيث تشرح كلمة الله وحيث كان الحضور إجباريا».
فصل الدين عن السياسية في نيوإنجلند
لم تكن نيوإنجلند مجتمعا ثيوقراطيا البتة، فقد كان القساوسة - على رغم من حضورهم الكنسي الكبير - خارج إطارات السياسية والعمل السياسي، الأكثر من ذلك أنهم كانوا يخضعون إلى المحاكم المدنية، وكانوا يلقون أحكامهم العقابية والتأديبية كما كان سكان نيوإنجلند كافة.
كانت نيوإنجلند أكثر ميلا لنزع المخيال الديني والتحرر منه على رغم سيطرته على بعض المرافق المدنية الخاضعة أصلا للسيطرة الكنسية المستوردة من إنجلترا، أما ساحة الحوار الديني الحقيقي فقد كانت في الولايات والمستعمرات الجنوبية، إذ كان للحركة الأدبية رواجها وفضاءها العام. وكان من أبرز من أنتجه الأميركيون هناك مجمل الإنتاج الذي خرج على يد أبن الوكيل الملكي لولاية «مين»، الذي يعتبر من أشد منتقدي البروتستانت. يقول بيري «وكانت الجامعتان اللتان هيمنتا على الحياة الثقافية هما هارفرد 1636 وييل 1701 وكان حضور إنتاج هاتين الجامعتين في المستعمرات الجنوبية قويا إلى الحد الكافي أن يكون ثمة جدل «ديني» قد نشأ هناك وترعرع وكانت له تبعاته الأخرى لاحقا.
العدد 1805 - الأربعاء 15 أغسطس 2007م الموافق 01 شعبان 1428هـ