العدد 1855 - الخميس 04 أكتوبر 2007م الموافق 22 رمضان 1428هـ

الإسلام دين متسامح مع مختلف الأديان السماوية على مدى القرون (2)

كانت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم للولاة في هذا المجال واضحة ومؤكدة إذ ابلغهم قائلا «أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

ويجب في هذا الصدد ألا يغيب علينا بأن صفية رضي الله عنها أحد أزواج نبي الإسلام كانت منحدرة من أصل يهودي، أضف إلى ذلك بأن علماء المسلمين لم يرو أدنى مغبة من إرسال أبنائهم إلى مرضعات غير مسلمات.

لاشك أن العلماء المنصفين على علم تام بهذه الحقائق التاريخية، ولهذا السبب أكد المؤرخ البريطاني الشهير ارنولد توينبي بشكل يسترعي الاهتمام « بأن المسيحيين لم يتلقوا أية أوامر باستثناء النصح والتربية، ومع ذلك عمل هؤلاء منذ القدم على اجتثاث اتباع الاديان الآخرى بالحديد والنار... ويجب ألا يشك أحد بأنه لو كان مسيحيو الغرب هم المسيطرين على آسيا عوضا عن العرب والاتراك لما عثرنا في هذه الأيام على أي أثر يمت بصلة للكنيسة اليونانية». وهذا إن دل على شيء فإنما يدل حسب وجهة نظر توينبي بأن عنصر التسامح الذي أبداه المسلمون للمسيحيين كان مفقودا تماما لدى المسيحيين في الغرب.

إن عامل التسامح الذي أرسيت قواعده من قبل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة امتثالا لنور القرآن الكريم ازاء اتباع الاديان الآخرى وتطوير حسن علاقات الجوار معهم لم تكن مسيرة أحادية الجانب بل أسهم أتباع الاديان الآخرى في هذه المسيرة وتمكنوا بفضل التفاهم والاحترام المتبادلين من تأسيس مجتمعات احتلت مكانة مرموقة في صفحات التاريخ البيضاء. ويمكن الجزم في هذا الإطار بإن التاريخ سطر بأحرف ذهبية الموقف النموذجي الذي استأثرت به الدولة العثمانية والمجتمع العثماني في هذا الصدد. اذ لم تطوق المحبة والتسامح لدى المجتمع العثماني اتباع الاديان الآخرى وحياتهم الاجتماعية والثقافية فحسب بل امتدت لتشمل البيئة الطبيعية وعالم الحيوانات على حد سواء.

وإنني أعتقد بأنه لولا عنصر العدالة والتسامح إزاء العناصر الدينية واللغوية والمذهبية والعنصرية كافة التي كانت تعيش بمنتهى السلام والوئام تحت مظلة الإدارة العثمانية لما تمكنت هذه الإدارة التي غيرت مجرى التاريخ من الصمود لمدة تتجاوز الستة قرون.

ولا بد من الإشارة إلى أن سلاطين آل عثمان كانوا قد تصرفوا بمنتهى العدل إزاء العناصر التي تنتمي لاديان آخرى. وكانت المجتمعات اليهودية والمسيحية على اختلاف أنواعها تعيش على سبيل المثال في المناطق المكتظة بالسكان المسلمين في بورصا، إذ نزح هؤلاء إلى هذه المدينة بعد الاستيلاء عليها من قبل العثمانيين للاستفادة من الحماية التي اشتهروا بتوفيرها للأقليات غير المسلمة. وكان السلطان أورهان غازي قد وافق على إنشاء كنيس كما وافق على إسكان اليهود الذين طردوا من إسبانيا في العام 1492 في مدينة بورصا أيضا.

إن الموقف الذي تبناه السلطان العثماني محمد الفاتح في أعقاب السيطرة على القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية في 29 مايو/ أيار العام 1453 مفعم بالمواقف التي يندر ملاحظة أمثالها في صفحات التاريخ. وعلى رغم أن التاريخ أخفق في تسجيل نص الاتفاق المعقود بين السلطان محمد الفاتح وجماعة الروم الارثوذكس إلا أنه نجح في المحافظة على نص الاتفاق المعقود في العام 1453 بين السلطان وذميي غلاطه الذي يحتوي على بنود مماثلة للاتفاق المفقود والذي يتضمن الحريات الدينية ويؤكد بأن الكنائس ستواصل النهوض بالمهام الملقاة على عاتقها وأنها لن تتحول إلى مساجد وأن السلطات العثمانية ستتجنب إرغام الذميين على تبني الدين الإسلامي.

وكان السلطان محمود الثاني قد لفت الأنظار إلى عنصر العدالة والتسامح الذي تتحلى به الدولة العثمانية والمجتمع العثماني في الكلمة التي ألقاها في مدينة شومنو في 5 مايو 1837 حيث قال: «أنتم أيها الاروام والارمن واليهود كلكم عباد الله كالمسلمين وكلكم مواطنوا الدولة التي أترأسها. إن الاديان التي تدينون بها مختلفة ولكنكم جميعا تحت حماية القانون العثماني». ويقال أيضا أن الملاحظات التالية عائدة للسلطان محمود الثاني ايضا: «انني أميز المسلم في المسجد والمسيحي في الكنيسة واليهودي في الكنيس فقط وإنني أكن المحبة والعدالة القوية للجميع لأنهم ابنائي وليس هناك أدنى فرق بينهم».

ولدى إلقاء نظرة خاطفة على مخطوطات السياح الأوروبيين الذين زاروا الأراضي العثمانية في مختلف الفترات نلاحظ بأنها مفعمة بالملاحظات التي تعكس عنصر العدالة والتسامح الذي تتحلى به الإدارات العثمانية. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة للملاحظات التي أوردها جيبونز(Gibbons) إذ قال: «في الوقت الذي كان فيه اليهود عرضة للإبادة الجماعية وفي حين كانت محاكم التفتيش الكاثوليكية تبث الموت، كانت الإدارة العثمانية تبذل ما في وسعها من أجل تعايش أتباع الاديان المختلفة في جو يسوده السلام والاطمئنان».

ولو تركنا الروايات التاريخية وتعليقات المحققين جانبا، فإن استمرار أداء العبادات والطقوس الدينية في المعابد المؤسسة في الأراضي التي كانت تابعة للإدارة العثمانية حتى في وقتنا هذا يمثل خير دليل يعكس عامل التسامح والعدالة لدى العثمانيين وخصوصا في الوقت الذي كان فيه العثمانيون يمثلون أكبر قوة سياسية وعسكرية في المنطقة.

إن خلاصة الموضوع هي أن الدين الحنيف قد أخذ بالاعتبار صعوبة التخلي عن الفوارق الناجمة عن إيثار دين على آخر وفهم الرسالة التي توحي بها الاديان، إذ أكدت الآية الكريمة التالية «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى و جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا... «( الحجرات: 13) بأن الباري عز وجل جعل هذه الفوارق فرصة لتعارف الناس على بعضهم بعضا من جهة وفرصة لتبادل المعرفة بين بعضهم البعض من جهة أخرى.

كما أوضح القران الكريم بأن اختيار الدين والعقيدة أمر ذو صلة وثيقة بإرادة المرء وعلاقته بخالقه إذ قال «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة: 256)، كما أكد قائلا: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»(الغاشية: 22). ولهذا السبب فقد منع الدين ممارسة أية ضغوط كانت في هذا الصدد، كما أوحى القران الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم والانسانية جمعاء بأن هدفه يتمثل في شرح الحقائق وإيضاحها فقط وأنه ليس مخولا لفرض عقيدة ما، لآن الخالق هو الذي يتمتع بالقدرة على تقييم العقائد.

ومع ذلك، فإن الضرورة تستدعي تجنب استغلال التسامح لاغراض خارجة عن الهدف الرئيسي منه. وإن استغل التسامح من أجل إثارة المفاهيم المغلوطة فإن ذلك لن يسفر عن إعاقة مسيرة الحوار بين الأديان والثقافات فحسب بل يلحق أضرارا بالغة أيضا بجو التسامح القائم إزاء الفوارق المنبثقة عن دين واحد.

يذكر أن إقدام بعض الكنائس الغربية على استثمار مسيرة الحوار والتسامح، التي تهدف إلى تعزيز التعارف والتفاهم بين أتباع الأديان المختلفة، والنظر إليها بمثابة فرصة ذهبية الغرض منها نشر الرسالة المسيحية تشكل قضية جدية للغاية تعيق الجهود المبذولة من أجل تأسيس السلام والتسامح وتعزيزه في هذه البسيطة. وليس خفيا على أحد بأن موقف بعض الكنائس المشار إليها والنشاطات المبذولة لتوسيع رقعة المسيحية في العالم كافية لنسف الجهود التي تهدف إلى تأسيس الحوار الصادق بين الأديان المختلفة وممثليها. وما من شك بأن تجرؤ بعض الصحف الدنماركية والسويدية على تشويه الدين الحنيف ونبي الإسلام أمر مرفوض اصلا من قبل كل أصحاب العقول والضمائر، ولهذا السبب سارعت رئاسة الشئون الدينية التركية الى التنديد بهذه المواقف السئيمة في بياناتها التي نشرتها في شبكة الانترنت الخاصة بها بمختلف اللغات كما تطرق رئيس الشئون الدينية حين استقبل البابا بنديكت السادس عشر في مقر الرئاسة الى هذه المواقف إذ قال: «كما هو معلوم فإن لكل دين أصول إيمانية وعبادات وعالم ثقافي مختلف. فديننا الذي ننتمي إليه يقبل بحقائق الأديان الإلهية التي سبقته ويرفض التفريق بين الأنبياء»، واضاف: «وبناء على ذلك فإننا نرغب في الإبقاء على سبل الاتصال المبنية على التسامح والاحترام المتبادل مفتوحة، معتمدين على المعارف الصحيحة والنيات الحسنة. ونعتقد أن لهذا أهمية كبرى للسير قدما في سبيل الوصول إلى الحقائق الإلهية والأهداف الإنسانية في عالمنا الذي نعيش فيه».

وخلاصة القول هي إن الاديان السماوية كافة وفي مقدمتها ديننا الحنيف احتوت على عناصر مهمة تضمن أمن وسلامة وطمأنينة الإنسانية بأسرها. ومع ذلك يمكن الجزم بأن بعض السلبيات التي تستمد قواها من التاريخ أو من بعض الفوارق الدينية في الوقت الحاضر ليست ناجمة بالأصل عن لب الاديان بل عن التأويلات المغلوطة لاتباع تلك الاديان. وهذا يعني أن علينا أن نعلق أهمية قصوى على فهم بعضنا بعضا من خلال الإستفادة التامة من إمكانات التواصل المتاحة والحوار إن كنا نود فعلا تأسيس السلام والاطمئنان في هذا العالم.

ولابد في هذا الإطار من التأكيد بأنه يتعذر التخلي عن المبادئ الرئيسية لاي دين كان، وإن وجدت الفوارق نتيجة اختلاف التاويلات فإن ذلك رحمة بالنسبة للدين الحنيف.

إننا نفهم من الحوار والتسامح بأنه وسيلة قيمة تتيح لنا إمكان العيش جنبا إلى جنب من دون تضخيم الفوراق التي تنتاب مجتمعاتنا ومن دون تحويلها إلى قضية تعيق الرغبة بالتعايش السلمي. ولا بد هنا من التساؤل هل يمكن الصمود طويلا أمام الفوراق الناجمة عن مسيرة التطور الضخمة التي تطرأ على العالم والحياة والزمن والإنسان؟ أو هل هناك من يود البقاء أمام هذه المسيرة من دون أي تغير؟ إن هذا التساؤل يملي علينا البحث عن الفوارق في طبيعة الكينونة بذاتها. ولو لم توجد هذه الحقيقة لوجدنا صعوبة بالغة في التعرف على خالقنا، ولو لم توجد هذه الحقيقة لما كسبنا القدرة على التعرف على الجمال الذي يتسم به الإنسان والطبيعة. ولهذا السبب علينا أن نتجنب اجتثاث الفوارق أو إضفاء شكل معين عليها من خلال الحوار، لأن تبادل المحبة والاحترام على رغم الفوارق الكامنة بيننا هو الهدف الذي حث عليه الدين الحنيف.

@ رئيس الشئون الدينية التركية المساعد والاستاذ في كلية الإلاهيات في جامعة أنقرة

العدد 1855 - الخميس 04 أكتوبر 2007م الموافق 22 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:02 م

      هل الديانات الاخرى متسامحة مع الدين الاسلامي

      اريد دليلا

اقرأ ايضاً