وفي الطرف المقابل لتلك الحياة السعيدة التي تقضيها أسرة عربية في القاهرة، نرى أسرة أخرى جاءت من أجل النهب والهروب، وخلق المشكلات والاستحواذ، وهذا ما أثار استغراب مسئولة أحد الفنادق الصغيرة حينما رأت غسان القادم من لندن ليقضي شهر العسل في مصر، فقد سألته مدام كريستينا: « لماذا جئت إلى مصر لقضاء شهر العسل وكنت في أوروبا، وكان باستطاعتك الذهاب إلى إحدى الدول الأوروبية الأخرى، مثل: سويسرا أو إيطاليا أو فرنسا، فلماذا مصر؟ قال غسان: أتيت إلى مصر تلبية لرغبة زوجتي، فقد طلبت أن نقضي شهر العسل في القاهرة».
ثانيا: الكويت العاصمة
كان للمرأة في مدن منطقة الخليج العربية حضور واضح في الرواية الخليجية النسائية، مثل: مدينة الكويت، ومدينة مسقط، وقد عالجت رواية مزون - وردة الصحراء المكان الخليجي بين مسقط والكويت من خلال مجيء مزون الصوت البارز في الرواية، والمقيمة في مسقط مع أمها، والقادمة منها إلى دولة الكويت « جئت إلى «الكويت» في أوائل الثمانينيات بعد صراع طويل ونقاشات وحوارات مملة لإقناع أمي بالسماح لي بالسفر والالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية « .
نالت الكويت عاصمة الدولة نفسها شهرة واسعة في العالم العربي والغربي بوصفها مركزا تجاريا وصناعيا لما تتميز به من مكانة إستراتيجية وبحرية ونفطية، إذ شهدت بحكم قوّتها الاقتصادية نهضة عمرانية وسكانية وصناعية.
وبناء على هذه المكانة بدأ تجّار الكويت في التعامل التجاري والصناعي ليس في الكويت وحدَها، بل تعدى ذلك إلى دول المنطقة والعالم أيضا ، فوالد موزن كويتي الجنسية تاجر متزوج بأكثر من امرأة، ومن هؤلاء أم مزون العُمانية، حيث الزوج مستقر في دولة الكويت.
ولكن بعد انتهاء موزن من مرحلتها الثانوية رغبت في دراسة الفن والتمثيل والإخراج ففضلت أنْ تكون بين أخواتها وأبيها بدولة الكويت، لذلك جاءت إليها الكويت طالبة علم ومعرفة ودراسة، فهي « البلد الذي حملتْ له عروقي نصف دمي، وصلت إلى موطن أبي وأخوة كانوا في انتظاري مع محبّة وأشواق معرفة سابقة، من تواصل زياراتهم المصاحبة لأعمال والدي التجارية في عُمان».
عاشت مزون في الكويت حتى تخرجت، بل ارتبطت بخالد الذي كان لها حبيبا وزوجا، عاشت في الكويت لترى فيها من التطوّر والتحديث والتغيير في العادات وبعض التقاليد بحكم التواصل والاتصال مع الجاليات العربية وغير العربية، لذلك كانت تخاطب ذاتها تجاه هذه المدنية، «سأعيش في هذه المدينة المتلاطمة بأذواق، وعادات، وتراث، ولهجات، وأعراق، وجنسيات بلاد العالم المختلفة، المستقرة والوافدة .. النابضة في نسيج غير متجانس، لكنه متفق ومتوافق في العيش وفق نبض خاص، ولغة سرية، غير واضحة للغريب، ولا يدركها أحد غيره».
وهنا تسلط الضوء على الهوية الاجتماعية التي ضاعت بفعل هذا الخليط البشري، الذي كان حادثا في الواقع المعيش وحاضرا في الوعي الروائي حينما لجأت الروائية إلى طرحه .
لم تسلم الكويت ولم تستقر في مكانها، وبين نفطها واقتصادها، وأموالها واستثماراتها، إنما الخلافات والأطماع العربيين جعلها مسلوبة الإرادة والحق، فلم يكترث نظام صدّام حسين بالوحدة العربية، والحق العربي، والأحلام المشتركة، وتلك المساعدات التي كانت تقدّمها الكويت للعراق في أثناء حربه مع إيران، حيث غزا الكويت، ونهب ما نهب وسلب جنوده ما سلبوا الأسر الكويتية وشردوا الأطفال والنساء ولم تعد الكويت تلك الدولة الآمنة .
وقد أثر هذا الغزو على مشاعر العرب، وشلّ تفكيرهم، وبدأت التساؤلات تنبري هنا وهناك، مما أثر ذلك على الجانب الإبداعي، فالروائية الخليجية حاولت أنْ توظف هذا الهم العربي والخليجي في الرواية النسائية، لذلك راحت الروائية السعودية قماشة العليان إلى القول على لسان المرأة: « النهب والسلب، والحرائق في كل مكان، والكويت، الكويت الحبيبة، إنها تغتصب، بكت هدى بمرارة والسيارة تنهب الطريق في الطريق البرية المؤدية إلى السعودية».
حاولت به الروائية في النص بيان تلك الآثار التي حلّت بدولة الكويت مستخدمة الأسلوب الروائي للمزج بين ما هو واقعي، وما هو حقيقي من خلال توظيف المتخيل، حيث « يقوم السرد الروائي عادة على مستوى المتخيل، وهو على مستوى هذا يوهم بواقعيته حين يرى أحداثا في الواقع الاجتماعي، كما يوهم على المستوى نفسه بحقيقته حين يسند ما يرويه إلى ما يبرره، أي يجد المروي شرعية فنية له، كما أن ما هو واقعي ليس دائما في الرواية حقيقيا، وما هو حقيقي في الرواية ليس بالضرورة واقعيا».
وينظر إلى الحقيقة في العمل الروائي بشيء من الحذر، فهل في الرواية حقيقة فعلية، أم أنها حقيقة جاءت من وجهة نظر الروائي، لما يراه من واقع معيش اجتماعيا أو تاريخيا أو عمرانيا أو ثقافيا أو غير ذلك، وهذا ما يؤكد رأى بيرسي بأنه « ليس هناك أية حقيقة في غياب المنطق، وليس هناك سلطة وراء الرواية» على اعتبار أنّ الرواية تتعامل مع المتخيّل في نسج الأحداث والوقائع ونقل التجارب.
إنّ دخول الجيش العراقي واجتياحه للكويت كانت مصيبة كبرى على العالم العربي والعالمي، وخصوصا منطقة الخليج العربية، حيث لم تكن المواثيق الدولية، ولا العلاقات العربية، ولا الإنسانية لها مكان في قاموس العراق في ذلك الوقت. وهذا الاجتياح فرض على أهالي الكويت الهروب بما يستطيعون حمله عبر الصحراء متجهين نحو المملكة العربية السعودية، فارين بحياتهم، وهدى التي للتو قد أنجبت طفلها الأوّل المعوق كانت من ضمن الأفواج التي خرجت من الكويت، من دون أن تعلم شيئا عن زوجها أو عائلته الأخرى.
وفي الجانب الآخر من المأساة هناك من الكويتيين الذين فضلوا البقاء على الأرض دفاعا عنها أو الموت على ترابها، لذلك كانت الروائية تصور حالة الهلع والخوف الذي كان ينتاب الكويتيين والمقيمين في الكويت أثناء هذا الغزو الذي دمر كل البنى التحية .
ثالثا: صنعاء
والحديث عن اليمن هو الحديث عن صنعاء أو أي مدينة في هذا المكان الجغرافي الجنوبي من العالم العربي، فاليمن ذات الحضارة والأصالة والتاريخ العميق منذ الخلق الأوّل، إذ كانت تسمى صنعاء مدينة سام نسبة إلى سام بن نوح عليه السلام .
أما قصة الملكة بلقيس والنبي سليمان عليه السلام فهي معروفة في التاريخ التي أضافت إلى المكان مكانة في الحضارة الإنسانية، كما أنّ صنعاء من أكبر المدن اليمينية التي نالت ميزة العاصمة اليمنية بعد توحيد الشطرين، اليمن الجنوبي واليمن الشمالي في مايو/آيار من العام 1990.
ولأنّ هذه المدينة والمدن اليمنية الأخرى تحمل أصول الإنسان العربي لما لها من موطن الدين اليهودي حاولت الروائية فوزية شويش السالم مناقشة العلاقات العربية اليهودية والعربية الأوروبية من خلال لعلاقات الإنسانية والدينية والجغرافية، وكأنها تريد القول إنّ السياسة لم تستطع حل الخلافات بين الدول والبشرية، وإن الأديان السماوية كفيلة باحترام الرأي والرأي الآخر، وإنّ الثقافات التي تشربها الإنسان عبر الأديان قادرة على التلاقي الثقافي والحضاري والفكري.
وهذه راشيل التي كانت تحلم بأرض أجدادها، فقد عزمت على الرحيل وها هي تنتظر الوصول إلى اليمن بعد رحلة طويلة عبرت من خلالها الأرض والبحار، فتقول: «عند حلولِ الليلِ سنصل إلى (صنعاء)، إنه آخر يوم لنا معا، شعرتُ بحزن يجثمُ عليّ كما الرحى حين أخبرني بقرب الوصولِ إلى صنعاء، لم يعدْ لي أدنى رغبة فيها، ماذا أفعل بدونه في مكان ليس له تواجد فيه، وقلبي بدأ منذ البارحة في الافتقاد والتوحشِ وهو ما زال معي، فكيف إذا غاب وأقفر منه المكان، والتفتُ ولم أجد ظله فوقي يطوقني بالأمان».
هكذا يظهر الألم من الفراق، والحسرة على الفقد، والأمنيات بالبقاء، فراشيل التي ستصل إلى اليمن، وتحديدا مدينة صنعاء ستكون وحيدة؛ لأنّ دليلها سيغادر إلى مكانه وعمله، لذلك ظلت مغيبة الفكر والشعور بالأمن والاطمئنان لمكان قد لا تجد فيه الراحة والأمل المعقود لديها، ولكنها تعبر البحر وتصل إلى اليمن «امرأة تسافر مع مرشد وجمالين من عدن إلى صنعاء عبر مسافات ومسافات، لا شك أنها امرأة مجنونة، لا يوجد في بلدنا امرأة تسافر وحدَها مع جمالين أغراب، لا يمكن لامرأة القيام بها بدون صحبة زوج أو أهل».
فراشيل لا تفكر فيمَنْ سيصاحبها أو مَنْ سيكون دليلها السياحي والباحث معها عن ضالتها، إنما هي تحلم بتحقيق أحلامها ومعرفة أصولها، «فالإنسان لا يحتاج إلى رقعة فيزيقية جغرافية يعيش فيها، بل يميل كذلك إلى البحث لنفسه عن رقعة من الأرض يضرب فيها بجذوره، وتتأصل فيها هويته».
ومن هنا كان ارتباط البحث عند راشيل هو البحث عن الهوية التي كانت مفقودة بالنسبة إليها، كما أنّ عادات وتقاليد البلد الذي جاءت منه لم يتحرج في التعامل مع المرأة أو الرجل، إذ كانت تربيتها وتنشئتها دليلين واضحين في رغبتها على تحمل المسئوليات، وهذا يعني أنّ راشيل على الرغم من اهتمامها بالماضي والبحث عنه، ففي الوقت نفسه كانت تنظر إلى المستقبل، وترى فيه الأمل الذي يصل وإياها إلى ما كانت تبحث عنه.
إن مجتمعنا الخليجي يختلف بحكم الموروثات الاجتماعية التي كانت محل عوق لتحرك المرأة وتحقيق آمالها، أو اتخاذ قرارها بمفردها إلا ما ندر، كما أن بعض الأسر الخليجية وبحكم تعلم بناتها في الخارج، وحصولها على بعض المعارف والعلوم التي أهلتها إلى خلق علاقات اجتماعية وثقافية أدت إلى دخول المرأة في تواصل مع الآخر، مما أسهم في تغيير النظرة إلى المرأة، وإعطائها حرية اتخاذ القرار.
تعاني المرأة بصورة عامّة في بلدان الخليج العربية من تلك البوتقة التي وضعها القيد الاجتماعي والأسري فيه خصوصا حينما تكون العلاقة مع الرجل، لذلك كان الرجل اليمني يرحب مستغربا لجرأة راشيل وموافقتها على مرافقة الرجلين لمرشدين لها، مع عدم معرفتها بهما أو تصرفهما.
وفي مقابل راشيل وهي في اليمن جاءت موضي المرأة الكويتية أيضا تبحث عن نسبها وأصولها، فهي قادمة من دولة الكويت إذ راحت تتجوّل في ضواحي صنعاء وأزقتها حيث صدمت بثلاث صدمات، حيث الأولى بسبب طبيعة البنية التحتية في المدينة، والثانية بسبب الإزعاج الخارجي للفندق، والثالثة لحضارة المكان وعظمته.
وجاءت الصدمة الأولى حينما كانت تسير في الشارع قائلة: «صدمتي الأولى جاءت بعد المضي في شوارع مدينة ناعسة في الإرهاق والتعب، صباح معكّر بسواد دخان الديزل، وسيارات عمرها الافتراضي انتهى منذ زمن لا يمكن تقديره، قراطيس متطايرة وغبار منتشر، ومدينة تعج بالتخلّف والفوضى، هذه هي المدينة التي حلمت بها، رمز الحضارة ومنبع الثقافة وأصل الشعوب العربية؟»، ليكون الحلم الذي تتصوّره المرأة في متخيّلها الذهني مؤشرا لطبيعة المكان، ذلك المكان الذي راح يتحول إلى حلم ووهم، - وبحسب ما تراه أو ربما اعتقدته - أنه صدمة لها.
وبرزت الصدمة الثانية حينما حاولت النوم في الفندق الذي نزلت فيه للراحة لكن الإزعاج والصراخ خارج مبنى الفندق لم يعطها مجالا للنوم، فقد سرق هذا الإزعاج النوم وثقب جدران الفندق منتقلا بين طوابقه؛ ليدخل غرفتها فتقول: «حاولت أن أنام في غرفة استيقظ النهار في كل ما حولها، أقفلت النوافذ لم يتلاش الإزعاج، لا فائدة منها ولا نفع، الأصوات تتسلل من الشارع إلى الدور الأول وتتسلق إلى الدور الرابع، ثم دخولها الغرفة، وتسللها إليّ من تحت المخدة، أصوات الباعة والمنادين مختلطة بأصوات المآذن وزعيق الفرامل وأبواق السيارات، ونباح الطلاب والأغاني الشبابية الصاعدة، أصوات من كل الاتجاهات تهاجم».
وكانت الصدمة الثالثة في شكل مخالف لما كان عليه بالصدمتين الأولى والثانية؛ لأنها عرفتها على مدينة صنعاء عبر العشق والعلاقات الثقافية والتاريخية الحميمة، إنها صنعاء الحضارة، والبناء، والتاريخ المتمثل في مساكنها الجبلية، والشموخ التي في جبالها، « ففي اليوم الثاني ذهبت مع الوفد الفرنسي إلى مدينة ثيلا، وشيام، وكوكبان، ووادي ظهر، ومن هذه الأمكنة تلقيت صدمتي الثالثة، أمكنة يعجز عن وصفها القلم، حضارة فوق الخيال، وجمال يسيطر على الروح بسحر يصعب الفكاك منه، ليس أمامك إلا الاستسلام، والخضوع الكامل لسلطان يبسط نفوذه الطاغي على كل ما حوله».
وفي الوقت الذي تسعى الروائية إلى إظهار هوية المكان وملامحه، كانت تبحث عن هوية هذا المكان وتاريخه، لذلك لجأت إلى إبراز بعض ملامح اليمن وتاريخه وحضارته من خلال صوت الأنثى، فراحت تعزز مكانة مدينة ثيلا اليمنية بقولها: «مدينة ثيلا منحوتة في الحجر سواء في أسوارها أم في أسواقها أم في بيوتها»، وكذلك مدينة كوكبان المبنية على قمة الجبال.
من هنا بات الشعور تجاه المدن والأمكنة الأثرية والحضارية علامات إعجاب وتأمل في قدرة الخلق والإبداع والتفنن، وهذا يعني أن اليمن جميلة وجمالها يكمن في مدينتها صنعاء فسحر صنعاء الخفي لا يدرك من الوهلة الأولى، وهذا ما جعل موضي تشعر بالمكان وأهميته في نفسها لذلك بينت إحساسها بقولها: «في اليمن أشعر بأني في مكان لا يشبه في طوغرافيته أو عاداته الاجتماعية منطقة الخليج بالرغم من مشاركته في ذات المكان».
كانت موضي المرأة الخليجية التي تشبعت بجمال المكان، وخيال البناء، وعظمة الحضارة والتراث، ودعت صنعاء بقلب يتقاطر ألما على الفراق، وحسرة على الابتعاد، إنّ حب صنعاء يتسلل خفية إلى الروح والقلب معاُ من دون أن يشعر به المرء الذي تطعم بجمالها وبهائها لذلك كانت تودع صنعاء قائلة: « وأخيرا لك مني يا صنعاء السلام، سلام على من أقامك، سلام على من وطئ أرضك، سلام على من أحبك، آه يا صنعاء»، وهنا يكمن الفارق بين ما قامت به موضي وما قامت به راشيل، فالمرأة الأولى قامت برحلة، وبعدها تعود إلى وطنها الكويت، أما المرأة الثانية فقد قامت بالهجرة حيث تطلب الاستقرار، وهذا يعني أنّ « الهجرة تغليب لطابع المكان، والرحلة تغليب لطابع الزمان».
العدد 2064 - الأربعاء 30 أبريل 2008م الموافق 23 ربيع الثاني 1429هـ