المتحف الذي تتعنى له ليس له بوابة محددة أو توجه واضح الملامح، الجبال كبيرة لكن لعظمتها وكبريائها لا يستطيع بصرك أن يلمها من قريب، وإذا ابتعدت لتلمح معالمها تحول بينك وبينها الضبابية في ترسيم ملامحها وجمالياتها،المتحف الوطني عندما تطفلنا عليه مع محمد المهدي أخذتنا الرهبة بين ملوك عظماء لعصور خلت نحن ضيوفهم، ملوك من فترة ما قبل التاريخ مرورا بعدة عصور حتى العصر المملوكي،هذه المنحوتات التي لها تأثير واضح في مراحل عصر النهضة في أوروبا لم تتورع عن إذهال مشاعر الدهشة والهذيان معا.وأخرى حوتها أرشفة الحيطان والخزانات تتأمل يوما ما أن تستعيد عافيتها في لحظات الهدوء البعيد عن المشاحنات السياسية التي تلقي جام غضبها على الأخضر واليابس لتجعله هشيما كأن لم يغن بالأمس، وأخرى على شواهق الجبال تستقبل ضيوفها على الهواء الطلق.
الصدفة تخلق لك المعاجز ولو سعيت للطلب لما نلته، ولن تبلغ له مدركا، ولكن إذا شاءت الظروف أن تستأذن لكي تتخطى الحواجز الأمنية في العاصمة بيروت وتسير مشيا على الأقدام لأنّ الطريق أصبح في العهد القريب ملكا خاصا، وعندما تصل إلى العمارة لتأخذك لحظات الخوف من الصعود بواسطة المصعد ،فلربما هي لحظة انقطاع التيار الكهربائي فتكون معلقا فيه، لولا أن المنجمين ممن كانوا معنا بشرونا بأن الساعة ليست ساعة الانقطاع. متحف آخر ليس له جدران تحتضنه ولا قبة تعتليه نستطيع أن نسميه متحف وهمي أو تحت التأسيس كما تشاء أن تسمع، اكتشفناه بصدفة خير من ألف ميعاد عندما دعينا على وجبة عشاء في متحف آخر يعج بالمقتنيات، وصلنا إليه بعد ما تخطينا الحواجز الأمنية، لنصل إليه فهو منزل «سمير جرار» وزوجته الفنانة» سعاد» ، لم يكن كالعادة أن تجد لوحة فنية معلقة على الحائط أو لوحتين إنما كانت اللوحات لا تنتهي ، فعندما تنبهر من لوحة أمامك فتندهش من أخرى خلفك وهكذا حتى تسللنا إلى الغرف الأخرى لنرى أعمال فنية لأشهر الفنانين العراقيين واللبنانيين وروادها ، وسعاد لا تتوقف عن عض أناملها حسرة على عمل قد ترددت في اقتنائه في السابق للفنان «شاكر حسن آل سعيد» ولم نستطع أن نشاهد كل الأعمال لتراكمها عل بعضها ولكن اجتهدنا على الإكثار من النظر إلى ما طالته أعيننا لها حتى أن الداعين لنا وجدوا صعوبة في دعوتنا للعشاء عوضا عن الأعمال.
ولم يخل الجو من وجود الفنانين من شتّى أصنافهم المخرج والمسرحي والتشكيلي لتكن لنا وقفة مع الفنان القدير «محمد قدوره» الذي ما عاد يفتأ عن ذكرياته مع عشيقته «روما» الديار التي تكون في الغالب محط رحال الكثير من الفنانين ممن ضلوا أرضهم، ليسرد لنا بعض من ذكرياته وتجربته حتى دعانا إلى منزله لنتعرف إلى متحفه الذي لم تشأ الأوضاع الأمنية أن يدشنه خوفا من أي محتمل يضر بالمقتنيات الثمينة التي يملكها من كبار التشكيليين كالفنان الراحل «خالد الرحال» الذي يبدو أنه مع علاقة طيبة معه في صياغة توجهاته الفنية.
وفي الصباح الباكر بعث لنا سمير أحد الأشخاص؛ ليأخذنا إلى الفنان قدوره، وما هي إلاّ دقائق حتى وصلنا إلى المتحف تحت التأسيس على ذمة الأوضاع الأمنية كما أسميه في الطابق الأخير الذي يطل على البحر مباشرة، يحق للمتذوق أنْ ينبهر بمجرد أن يشم ريحان الفن وعبقه من على عتبة الدار، الإضاءة الطبيعية ساطعة من النوافذ الزجاجية الكبيرة، الأعمال لا يسعها المكان فيبقى جزء موجود هنا والأخرى في الداخل وفي الأدراج، معظم الأعمال بالألوان المائية، مشاهد تستطيع أن ترى بعضها قد اقتنصها «قدوره « من نافذة مقره وخصوصا مرتادي البحر، وما أثار دهشتي هو بائع الخبز الذي قد رسمته (اسكتشات) وأخذتْ له لقطات عديدة لتنفيذه في ما بعد وهو أول مشهد تقتنصه عيني في بيروت هو ذاته والمشهد لبائع الخبز المتجول الذي يتسكع في لوحات قدوره. لدى قدوره العديد من التجارب الفنية عبر مراحل زمنية مختلفة، وخامات مختلفة في صياغة هيكلة النحت مثلا واستخدام أساليب الكولاج وغيرها، ولكن التلوين المائي هو سيّد الموقف، له حضور دائم في أعماله، له حضور يتجلّى من خلال شخصيته الهادئة اللطيفة، اللون يسكبه بحساسية بالغة الدقة؛ ليترك الفضاء الأبيض والمساحات الواسعة من البياض تخلق جدلا عن توازن العمل من جهة، وسيطرة الفنان على فضاء العمل من جهة أخرى.
«سمير» دائم الحضور في الحديث حيث لم يترك لنا فرصة أنْ نستريح فيها في ظرف الساعات الأخيرة للعد التنازلي لمغادرتنا .. فأخذ يتحدث مع «قدوره» يصوت منخفض.. الجبل.. الجبل ففهمنا أن رحلتنا للجبل شيء حتمي لا مفر منه، لأن جرار لا يتراجع عن الكلام فيريد أن يعرفنا عن لبنان أكثر أو أنْ يعوضنا عن الأيام الخوالي التي لم نتعرف فيها على بعض.وبالفعل تم الصعود التدريجي إلى موطن الثلج لنصل إلى نقطة جدلية لنرى امتداد (السمبوزيوم) على الجبل وفي الهواء الطلق لفنانين من شتى بقاع العالم ، أخذوا يطوعون الحجر بشتى أنواعه ليخلقوا منه عملا يحاكي التوجهات الفنية المختلفة، ليضيفوا بصمة إضافية بالقرب من السفوح الجبلية والمدرجات التي طوعها الكنعانيون للزراعة في هجراتهم للشمال .
فتمت الزيارة للمتحف الوطني، ولمتحف مقتنيات جرار، ومتحف قدوره،وأخيرا السمبوزيوم على أسطح الجبال، ليفصل الزمن بين تواقيتها.ويبقى الفن ليس له حواجز تحد من امتداده الروحي وقيمه الجمالية، في امتداد متواصل لرسالة الإنسانية .
حسن الساري
العدد 2078 - الأربعاء 14 مايو 2008م الموافق 08 جمادى الأولى 1429هـ