القطار الذي ركبته من حدود كندا الى بلدة «أمهرست» الأميركية حيث الجامعة الشهيرة «ماساشوتس - امهرست» أتاح لي فرصة نادرة للتعرف إلى المناظر الطبيعة الخلابة بغاباتها وسهولها الخضراء ومزارعها وأنهارها الصغيرة... أمّا القرى الريفية الجميلة فتجدها مترامية على اعتاب محطات الوقوف. وهي تتيح لركّاب القطار استعادة مناظر رعاة البقر وأسلوب حياتهم إلى الذاكرة التي تغذيها أفلام الرعاة وأغانيهم. ويمكن اعتبار بلدة « أمهرست» واحدة من تلك القرى؛ لولا أنها تختلف عنها في العراقة والشهرة بسبب جامعتها العريقة والشخصيات المنتمية إليها.
لم نجد في محطة قطار امهرست سيّارة تاكسي توصّلنا إلى حرم الجامعة واستلفت وقوفنا على الرصيف إحدى دوريات الشرطة المحلية فاقترب منّا شرطي خيّال على ظهر حصانه وأفهمنا أن عدد سيّارات التاكسي في البلدة لا يتجاوز الثلاث وقد نتأخر إذا قررنا الانتظار، وحينما رأى علينا علامات الاستغراب والدهشة قال مودّعا: إنّ البلدة قربية ويُوجد مسار للحافلة قريب منّا .. وعلى عادة الأميركيين ودعنا قائلا: إذا احتجتم إلى مساعدة أخرى فنحن حاضرون ثم انصرف.
وفهمتْ أم الأولاد المغزى فأمسكت بالشنطة ذات العجلات لتجرها على رصيف الشارع وما لبثت أنْ حذوتُ حذوها وسرنا معا قاصدين تلك الجامعة حيث يدرس أحد أولادنا.
ومرّ في ذهني وأنا أسير متلفتا أبحث عن سيارة الحافلة واسأل أصحاب الحوانيت رغم قلتها وقلّة المارة، شريط من الذكريات عن الجامعات التي قدر لي أن ازورها قاصدا أو لمجرد حب الاستطلاع في أثناء أسفاري الكثيرة.
وأوّلى تلك الجامعات في حياتي كانت الجامعة الأميركية في بيروت خلال الخمسينيات حيث كان يدرس بعض من الأصدقاء منهم على سيبل المثال علي فخرو، وابراهيم يعقوب، وراشد فليفل ورسول الجشي وآخرون. وكنت انتظرهم في مطعم الجامعة حيث نتبادل النكات عن الشارع (بليس) وقاعة (بليس) ورداءة الطعام في مطعم (بليس) الذي كنت استنتج من مبالغتهم في وصفه وهم يقدّمونه لي مرفقا بالشاي المثلج الذي عرفته لأول مرة هناك ... حاجتهم لتذوق وجبة بحرينية فأدعوهم الى المصيف الذي أنزل فيه في القماطية أو في فندق حجار بسوق الغرب. واستمرت تلك الزيارات لطلاب الجامعة الأميركية في بيروت تتكرر كلّ سنة أو سنتين تقريبا خلال الخمسينيات والستينيات حتى انتقل مركز الثقل بعد ذلك إلى باريس ولها ذكرياتها الممتزجة بروائح الحي اللاتيني ومطاعم الشانزلزيه الفخمة ومقاهي الطلاب في (أودي بارت) لوكسمبورغ وحول سان جرمان وسان ميشيل وجامعة السوربون العريقة.
ولم أكن الوحيد ممن كان يأنس بزيارة طلاب البحرين في الخارج .. فقد كانت عادة محمودة تميّزت بها عدد من الشخصيات الأدبية وأصحاب الأعمال البحرينيين وكبار المسئولين والتي تبخرت بمرور الزمن رغم أن هذه اللقاءات كان لها أثر إيجابي في نفوس الطلاب وعلاقاتهم بالوطن. وقد أتاحت لي كذلك زياراتي المتكررة للعراق خلال الستينيات من القرن الماضي تجديد لقاءاتي مع بعض الطلاب من البحرين ومن العراقيين الذين كنت أدرس معهم في ثانوية الأعظمية أو أساكنهم في دار البعثات العربية. وقد تحوّلت ثانوية الأعظمية إلى كلية العلوم للبنات حين زرتها لتسليم رسالة لإحدى الطالبات العام 1963. وتذكّرت وأنا اتجوّل في رواقها الوحيد الطويل المزدحم كيف كانت هذه الدار العام 1945 هادئه رائقة وجميلة لا يكدر صفوها سوى إدمان طلابها على إعلان الإضرابات والخروج للشارع في كلّ مناسبة سياسية. وكنت أنا والمرحوم دعيج بن علي وأخي حسين نبقى في صفنا وحيدين حتى يأتي مدير المدرسة وينصحنا بالانصراف مجاملة لمشاعر المضربين!
وحديث الجامعات طويل .. أذكر منه بعض الملاحظات التي لفتت انتباهي :
1 - جامعة أوكسفورد:
وهي الشهيرة في بريطانيا والتي يمتاز طلابها ويتفاخرون على غيرهم بإجادة اللغة الفصحى الإنجليزية وطريقة نطقها وتعرف بلغة اوكسفورد. وقد لفت نظري بناؤها التاريخي القديم، ومساكن الطلاب الخالية من المرافق وفناؤها الواسع حيث يعيق البرد والمطر تنقل الطلاب فيها من جهة لأخرى ... ومنظر النهر والحدائق الجميلة فيما حولها .. كان ذلك في العام 1962 وأهم من كل ذلك روائح المشهورين التي يحملها التاريخ عن هذه الجامعة وما حولها ولا سيما الشاعر الإنجليزي المشهور: وليم شكسبير
2 - جامعة كمبردج
وتتميز بمناظرها الطبيعية الخلاّبة، وسباق القوارب، وملاعب يمارس فيها الأساتذه المرهقون (لعب التيلة) التي يعرفها أولاد الحارة في البحرين. ومن أغرب حكايات كمبردج حكاية المكتبات العامّة. و قد حدّثنا الدليل المرافق عن إحدى المكتبات التي اشترطت ألا يزيد عدد الكتب المفقودة منها سنويا عن 10في المئة وإلا تم نقلها إلى مكان آخر ... ثم قال: إنها أصبحت تنتقل من مكان لآخر في كل سنة لنقص الكتب باستمرار ولعلها الآنَ بعد 27 عاما أصبحت خالية من الكتب، إذا لم يتم استبدال الناقص منها ...
3 -جامعة القاهرة
تعتبر جامعة القاهرة أقدم الجامعات في مصر ومن أقدمها في البلدان العربية، تأسست في العام 1908 كجامعة أهلية بمساعي عدد من رواد الفكر والتنوير في مصر أمثال محمد عبده ومصطفى كامل ومحمد فريد وقاسم أمين وسعد زغلول، ولم يكن لها مقر دائم وقتداك فقد كانت المحاضرات تلقى في قاعات متفرقة كان يُعلن عنها في الصحف اليومية كقاعة مجلس شورى القوانين، ونادى المدارس العليا، ودار الجريدة حتى اتخذت الجامعة لها مكانا في سراي الخواجة (جناكليس) الذي تشغله الجامعة الأميركية حاليا. ولما تكاثرت عليها المصاعب المالية انتقل مبناها إلى سراى محمد صدقي بميدان الأزهار بشارع الفلكي اقتصاداَ للنفقات.
وقد أنشئت الجامعة في أوّل تأسيسها من أموال تبرعات المحسنين ومحبي الخير سواء ما دفع منها نقدا أو عن طريق تخصيص ريع الأرض والأطيان. ولكن الأزمة المالية ظلت تلاحقها إلى أن احتضنتها بالرعاية الأميرة فاطمة إسماعيل بنت الخديوى إسماعيل التي أوقفت أملاكها وأطيانها وعرضت مجوهراتها الثمينة للبيع وذلك في سبيل إنشاء مقر جديد وهو مقر الجامعة الحالي وتنفيد بناء الجامعة ومرافقها على طراز الجامعات الحديثة، حيث تم وضع حجر الأساس للجامعة في 31 مارس/آذار 1914 (1332هـ).
وبعد اكتمال البناء تم الإعداد من قبل الحكومة المصرية لاندماجها بالجامعة الحكومية، منذ العام 1917.
وكانت أوّل صلتي بالجامعة حينما زرتها برفقة عميد الجامعة العام 1973 حينما كنتُ سفيرا في مصر، وتسنّى لي في أثناء الزيارة التجوّل بين عدد من كلياتها ومراكز الأبحاث فيها. وتعرفت على عدد من الأساتذة والعلماء المختصين في مجال الزراعة وحملت ملخصا للتجارب والأبحاث الخاصة بتطوير الزراعة في الأراضي المالحة غير الصالحة للزراعة وذلك باستعمال أساليب وتقنيات جديدة تحت عنوان تغيير البيئة الصحراوية وقمتُ بتسليم تلك الدراسات إلى وزارة التجارة والزراعة في عهد الوزير حبيب قاسم الذي كان يبدي اهتماما آنذاك بزراعة منخفض (البحير) وأجزاء أخرى من الأراضي المهملة في البحرين.
وخلال وجودي في مصر كانت اتصالات السفارة بجامعة القاهرة والجامعات الأخرى مستمرة بالنسبة إلى قبول طلاب البحرين حيث كانت الجامعات ترفض عددا من طلبات الالتحاق أما بسبب ازدحام الصفوف أو أفضلية الدراسة للطلاب المصريين أو بسبب المعدلات والمجاميع أو قدم المؤهلات إلى غير ذلك. وكانت سفارة البحرين في القاهرة بناء على طلبات الوزارات المعنية، ومن واجب الحرص على مستقبل أولئك الطلاب، تزوّد المتقدّمين برسائل لوزارة التعليم المصرية طالبة منح أولئك الطلاب استثناء خاصا باعتبار أن البحرين بحاجة ماسة إلى تلك التخصصات التي يرغبون في دراستها وكانت استجابة وزارة التعليم المصرية لطلبات السفارة وتعاونها بمنح الاستثناء لطلاب البحرين (إلا في حالات قليلة) مما يستحق الإشادة والتنويه.
وقد تسنّى لي كذلك أن أحضر عددا من جلسات مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه في جامعة القاهرة والتعرف إلى أساليب المناورات والمماحكات الممزوجة ببعض الاستفزاز من قبل الأساتذة الممتحنين تجاه الطلبة بغية استخلاص الحقائق والتوصّل إلى القناعات السليمة.
يتبع...
العدد 2106 - الأربعاء 11 يونيو 2008م الموافق 06 جمادى الآخرة 1429هـ