العدد 2127 - الأربعاء 02 يوليو 2008م الموافق 27 جمادى الآخرة 1429هـ

المآتم وسّعت الرقعة الحضرية للعاصمة

شكلت حركتها بعدا مهما في الربط بين «الدين» و«العمران»

لقرون عديدة ظل الإسلام هو المصدر لمجموعة من قواعد السلوك الثقافية، ومبادئ التنظيم الاجتماعي، والفروض القانونية وأدوات التعبئة السياسية في العديد من المجتمعات المدينية. وهكذا فقد ساهم بشكل أساسي في تعبير البيئات المدينية. ولكن الإسلام لم يشكل بشكل واضح أنظمة مدينية محددة، على الأقل بالشكل الذي تفترضه فكرة المدينة «الإسلامية» وهي الفكرة التي أثارت الكثير من الجدل الأكاديمي في العقود الماضية (1). ولأن هذه الفكرة ممثلة لنموذج مثالي، فإنها بكل وضوح تتضمن وجود الإسلام الذي يكشف عن وحدة متراصة إلى حد ما. في الواقع فإن الإسلام متنوع - متشعب إلى حد كبير من حيث الزمان والمكان. بالإضافة إلى ذلك، من الضروري إدراك أن هناك تنوعا لافتا للنظر في الأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية التي تشكل تجلياتها المختلفة قوى للتطوير المديني.

في البحرين في فترة ما قبل اكتشاف النفط، كان تعبير الفضاء المديني ناتجا في الأساس من التفاعل الوثيق بين التضامنات القبلية، والقيم التجارية، والتقاليد الكوزموبوليتانية المتحررة التي شكلت عبر التاريخ نسيجا اجتماعيا متعدد الثقافات. كانت التضامنات القبلية تمثل بلا شك قوى كبرى في تحديد القوى المحركة سياسيا في منطقة الخليج. منذ نهايات القرن الثامن عشر، أدت السطوة السياسية للمجموعات القبلية التي تنتمي إلى الاتحاد القبائلي في المناطق الساحلية في الخليج، إلى فرض الحكم القبلي على جميع دول الساحل الخليجي.

وتمكنت النخب القبلية الجديدة، من الحفاظ على شرعيتها السياسية عن طريق فرض نظام سيطرة فعالة على النشاط التجاري الذي كان قائما في المناطق المدينية. طوال القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين كان معظم التوسع المديني الحاصل في البحرين ناتجا من القوى الاقتصادية التي أطلقها ازدهار تجارة اللؤلؤ. في مدينة المنامة على وجه التحديد، التي تعد مركزا تجاريا والتي كان 60 في المئة من سكانها تقريبا هم من الشيعة، وذلك مع حلول العام 1905، شجعت التطورات الاقتصادية والسياسية في تلك الفترة التطور المديني بشكل سريع.

في القرن التاسع عشر، أصبحت المنامة أهم مركز تجاري في الجزيرة، ومحطا للأطماع الاستعمارية البريطانية في منطقة الخليج.

الدور الذي لعبه الإسلام في توسيع المنامة لا يمكن فهمه إلا في سياق المعنى الذي تفترضه الهويات الطائفية ضمن الإطار المحدد لنظام الحكم البحريني. كان الحكام وأصحاب السلطة ينتمون إلى الإسلام السني، وعلى الرغم من أن المجتمعات المدنية، على وجه الخصوص، أظهرت درجة ملحوظة من التكيف مع الواقع السياسي والاقتصادي الجديد. منذ نهايات القرن التاسع عشر، كان تعبير الشبكات الشيعية المتمركزة حول المآتم يلعب دورا مركزيا في توسيع عدد من المناطق السكنية في المنامة.

إن تاريخ المآتم يسلط الضوء على الطرق التي أصبحت بها التضامنات الدينية التي تشكل أساس المؤسسات المدينية، محددات كبرى في تشكيل الفضاء المديني. كما توضح المدى الذي كانت به هذه التضامنات متصلة بشكل وثيق بتعريف الصلات الاجتماعية وهيكليات القوى في العلاقات الاجتماعية وفي بيئات مدينية محددة في المنامة.

مآتم المنامة

في البحرين المعاصرة يمكن أن تشير كلمة مأتم إلى مبنى متخصص، أو إلى حشد من الناس. في الحالتين، فإن المآتم هي في صلب تعريف الهوية الشيعة ولاتزال تمثل العلاقة ذات الامتياز التي تربط المجتمعات الشيعي المحلية بالإمام الحسين. المآتم هي منظمات ذات وظائف متعددة، والتي تشبه الحسينيات الإيرانية، في كونها أماكن للاحتفال بعاشوراء، وهي سلسلة من الشعائر الدينية التي تحيي ذكرى استشهاد الإمام الحسين وتنشر التعاليم والتقاليد الشيعية. المآتم أيضا هي أماكن غير رسمية تقام فيها الكثير من النشاطات الاجتماعية.

حتى نهايات القرن التاسع عشر، كانت المآتم تجمعات عفوية تتشكل بشكل منتظم في المنازل الخاصة، سواء في المناطق القروية أو المدينية. بعد تسعينيات القرن التاسع عشر أدى التزايد المفاجئ للمآتم المتخصصة في العديد من المناطق السكنية في المنامة إلى اكتساب العديد من المجتمعات الشيعية مكانة اجتماعية وسياسية جديدة. منذ ذلك الحين أصبحت المآتم تحدد بشكل كبير المنظر المديني إذ يبدو أنه لم يتم تأسيس أي مآتم رسمية خارج المنامة حتى الخمسينيات. وقد تزامن إنشاء المآتم الرسمية مع بدايات الاحتفال الشعبي بعاشوراء، خصوصا مع ظهور مواكب العزاء خارج المآتم وهو ما أصبح في العقود التالية متنفسا هاما للمظلومية السياسية للمجموعات المدينية الشيعية.

بالإضافة إلى ذلك، والأهم بالنسبة للتحولات التي أثرت على الفضاء المديني في المنامة في هذه الفترة، أصبحت المآتم العلامة المعمارية لحب الشيعة للحسين. وقد كانت لها أهمية خاصة في تثبيت بعض المجموعات المهاجرة في الأحياء الشيعية الممتدة. مثلا مأتم العجم الكبير الذي أسس العام 1892، قام بوظيفة كونه النقطة البؤرية للجالية الفارسية في المنامة، التي وصل العديد من أفرادها إلى المنامة من جنوب إيران بعد خمسينيات القرن التاسع عشر.

المأتم الذي كان يقع على أطراف المستوطنة المدينية في منطقة ذات كثافة سكانية ضئيلة كانت تعرف باسم مشبر، كان له وظيفة كونه نواة لتمدد هذه المنطقة التي أصبحت في سنوات لاحقة أحد الأحياء الفارسية في المنامة. وبشكل مشابه فإن ظهور المآتم الحسينية في العام 1895 في ضاحية المخارقة حدد معالم هوية مدينية جديدة للعديد من الشيعة المهاجرين من منطقة الإحساء، وهي إقليم ساحلي يقع في المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية (2).

في هذه الفترة أصبحت العديد من تجمعات المآتم، التي يلتقي فيها المؤمنون بشكل منتظم، رسمية باستبدال الأكواخ المبنية من الطين والقصب بمبانٍ حجرية. في بحرين القرن التاسع عشر، كان هذا الاستخدام للفضاء المديني يشير إلى تحول في البيئة المركبة داخليا التي كانت تميز بشكل كبير المناطق القروية عن المستوطنات المدينية الممتدة.

في الواقع كان تأسيس مبانٍ حجرية دائمة للمآتم، بالإضافة إلى صيانتها، يحتاج إلى رأس مال ثابت. وهكذا فإن ازدهار المآتم في التسعينيات من القرن التاسع عشر يجب النظر إليه في ضوء ظهور نخبة من التجار الشيعة الذين استفادوا من ازدهار تجارة اللؤلؤ في نهايات القرن التاسع ومن الحماية البريطانية المتزايدة. كان ارتباط هؤلاء التجار المباشر مع المآتم الرسمية يشير إلى التقوى الدينية لكنه أصبح بعدها علامة على الثروة والهيبة الاجتماعية بشكل كبير.

الأشكال المدينية والسلطة

يمكن اعتبار التوزيع الفضائي أو الحيزي للمآتم في المنامة إشارة إلى أن أماكن العبادة الشيعية ظلت محصورة في المناطق السكنية في المدينة. السوق، الذي كان المركز السياسي والاقتصادي في المنامة، والمنطقة الشعبية الأكبر، كان في الحقيقة منطقة ذات سيطرة سنية، كما تشير إليه حقيقة أن أغلب المتاجر والعقارات كانت إما مملوكة من قبل قبائل سنية أو في الأغلب مملوكة للأوقاف السنية.

على الرغم من أن العديد من التجار الشيعة الذين يدعمون المآتم في المناطق السكنية في المدينة يعملون في السوق، فإنهم بشكل عام لم يكونوا قادرين على الحصول على ملك هناك. كانت ثروتهم في الأغلب تستثمر في الأحياء المدينية حيث كانت البيوت والمحلات خصوصا مسجلة في الغالب على كونها أوقاف شيعية تنتفع منها مآتم محددة. وتدمج في مجموعة أبنية تجارية ودينية تدعم بشكل مباشر من قبل متاجر تقع في البازارات المركزية (3 )

في المنامة، أثر الاهتمام الحكومي بالسيطرة على عائدات التجارة بشكل واضح على تطور السوق وحدد الموقع المحيطي لأماكن العبادة الشيعية نسبة إلى المراكز السياسية والاقتصادية في المدينة. على الرغم من أن الحكام استخدموا المحكمة السنية الوحيدة في البحرين بشكل كبير، والتي كان لها موقع استراتيجي في المنامة، إلا أنهم كانوا مترددين عموما في فرض عرف سني رسمي. بدلا من ذلك، اعتمدوا بشكل كبير على العادات القبلية. في العقود الأولى من القرن العشرين، كان المسجد السني الوحيد الظاهر في الجوهر المديني في المنامة يقع في منطقة سكنية تسمى «جامع». وتعد حقيقة تسمية هذه المنطقة نسبة إلى المسجد إشارة واضحة إلى المدى الذي يعد فيه وجود أماكن عبادة كبيرة في المدينة أمرا غير اعتيادي.

شكل الإسلام بلا شك بعدا هاما جدا في التطور المديني في المنامة، المدينة التي بقت ذات اغلبية سيطرة شيعية. ولكن وكما توضح حالة المآتم فإن الهويات الطائفية وحدها لم تكن قادرة على شرح تطور أشكال مدينية محددة ما لم يتم تضمينها في سياق المحيط الاقتصادي الاجتماعي والسياسي الأوسع.

·باحثة تاريخية في الشرق الأوسط الحديث وباحثة في جامعة ايكستر البريطانية. المقال أعلاه جزء من بحث حول التاريخ المديني في البحرين(ترجمة بتصرف).

العدد 2127 - الأربعاء 02 يوليو 2008م الموافق 27 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً