قد يُحقق النص خطوة متقدمة إلى الأمام لإرساء قواعد مُعينة وتوجيهات نحو انتهاج سياسة محددة الأهداف، ولكن هل الدول (واقعيا) تتقيد بهذه القواعد والتوجيهات أم تضرب بها عرض الحائط؟!
فقد تصدر تلك الدول المريضة والتي تتعالج عند دكتور نفسي متخصص في معاينة مرض الازدواجية في الشخصية الفردية والدولية - قد تصدر - بيانات أو توقع على عهود دولية أو تدمج في دساتيرها وقوانينها بنود حقوق الإنسان وقد تتحدث في المحافل الدولية بسلاسة وانسيابية عن الوضع الحقوقي الوردي في دولها.
هذا الواقع العلقمي حرك الضمير العالمي فقد لمست الجمعية العامة للأمم المتحدة - وهي الهيئة العالمية الأكثر تمثيلا لدول العالم - جرح خرق حقوق الإنسان في العالم وكلفت اللجنة الدولية لحقوق الإنسان المنبثقة عنها وقسم حقوق الإنسان في الهيئة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي بالسعي نحو إجراء كافة التحقيقات والدراسات بشأن تقييد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بشرعة حقوق الإنسان وفقا لما يمليه عليه انتماؤها للهيئة الدولية والتزامها بمبادئها كما نصت على ذلك المادة 55 من شرعة الأمم المتحدة نفسها.
كذلك اهتمت الوكالات الدولية المختلفة والمنظمات الحقوقية بإجراء التحقيقات والدراسات والأبحاث عن مدى احترام حقوق الإنسان، فخرجت بنتائج هذه الحقوق في كثير من البلدان سواء أدعت الديمقراطية أم تلبست بها مظهرا، فإن كانت الدول بهذه الصورة فكان الله في عون الشعوب التي تتبع حكوماتها الديكتاتورية علانية سياسة القمع والاضطهاد العرقي والتمييز العنصري.
فالتقارير التي تنشرها المنظمات والجمعيات الدولية والمقدمة لهيئة الأمم المتحدة من وكالاتها تفيد ان انتهاك حقوق الإنسان قائم في العالم إما بصورة قصدية وأما نتيجة لإهمال في المراقبة من قبل الدولة، وفي كلتا الحالتين تُرتكب جرائم ضد الإنسانية، تُوجب الملاحقة الجزائية لمرتكبيها.
والسؤال المُلح الآن... كيف نقضي على التناقض الساخر بين النصوص الراقية والمتحضرة والإنسانية والممارسات السيئة والهمجية، وكيف نستوعب التناقض الواضح بين النصوص الدستورية والتشريعات والأنظمة الداخلية؟!! ولكي يتوافق النص مع الواقع فلابد من وجود إرادة حقيقية ومجتمع صالح واحترام لإنسانية الإنسان ووجود الرقابة الدستورية والقضاء الجزائي للفرد والمجتمع.
المجتمع الصالح
التنمية ونمو الشعوب يفرض إلقاء نظرة شاملة وتقييمية على الأوضاع السائدة في كل بلد بغية إيجاد مقومات المجتمع البشري الصالح والنظام السياسي والتربوي والثقافي الذي ينمي ويصقل شخصية المواطن، فالمواطن قوام الوطن ومحور الحقوق والحريات الأساسية فإذا كان التخلف هو الصبغة الغالبة على الشخص فلا خير يُرجى ولا أمل يؤمل من النصوص ومن الشعارات.
الارتقاء بالإنسان
بناء الشخصية الإنسانية يعد الحافز الأساسي الذي كان وراء إصدار العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1966 إذ ورد في مقدمة هذا العهد أن الدول الأطراف فيه «إذ ترى ان الاعتراف لأفراد الأسرة البشرية جميعا بالكرامة الإنسانية الأصيلة وبالحقوق المتساوية غير القابلة للتصرف هو، وفقا للمبادئ المُعلنة في ميثاق الأمم المتحدة، أساس الحرية والعدل والسلم في العالم».
الرقابة الدستورية
كل ذي سلطة بحاجة لتنمية جهاز للرقابة على تصرفاته حتى تبقى متفقة دوما مع الأهداف التي منح السلطة من أجل تحقيقها. فالنفس البشرية تواقة إلى فرض نفسها على الآخرين أو إلى التغاضي عن ميولها التي يمكن أن تصبح تحكمية إذا لم تجد من يحد من اندفاعها. فالرقابة كانت منذ القدم ومازالت الأداة الفاعلة التي أوجدتها المجتمعات لتنمية الكوابح الذاتية التي تشكل صمامات الأمان في كل ما يتعلق بتصرف الإنسان نحو نفسه ونحو أقرانه ومجتمعه.
القضاء الجزائي كحام للفرد والمجتمع
إن أكثر ما يهم المواطن في مجتمع ما أن تكون حقوقه مصانة بموجب القانون وأن يكون القضاء قادرا على حماية هذه الحقوق بما يتيحه للمتضرر من استرداد حقه إذا هُدر أو التعويض عليه فيما إذا خُرق ومعاقبة المذنب إذ يتوجب العقاب. فالمواطن يتحسس القوة في المجتمع الذي يعيش فيه من خلال مقدرة القضاء على إيجاد الطمأنينة في نفسه وإشعاره بالحماية الكافية لحقوقه
العدد 294 - الخميس 26 يونيو 2003م الموافق 25 ربيع الثاني 1424هـ