تنامت بشكل ملحوظ خلال السنوات العشر الماضية في الكثير من دول العالم المتقدم والنامي على حد سواء دعوات المطالبة بتطبيق المزيد من مبادئ الشفافية. وجاء هذا النمو تلبية لمساعي البحث عن نموذج لبناء بيئة محفزة للأعمال، ولتقليص المخاطرات المالية أمام المستثمرين المحليين والعالميين، وكذلك لتقليص مخاطر الرعاية الصحية للمواطنين.
ولقد عرفت الكثير من المؤسسات العالمية والإقليمية بعض السياسات النشطة في اتجاه المزيد من تطبيقات الشفافية. ففي العام 1996 وضع صندوق النقد العالمي أسس متطلبات الكشف المالي التي ينبغي أن تلتزم بها الدول النامية وغير النامية الباحثة عن قنوات الولوج إلى أسواق الرأسمال. وفي العام 1998 حددت لجنة باسل للمراقبة المصرفية قواعد للشفافية المصرفية. كما تبنت بعض أقطار العالم النامي مقاييس للمحاسبة التي ينبغي أن تتقيد بها المؤسسات كانت من وضع اللجنة الدولية لمقاييس المحاسبة. حتى البنك الدولي هو الآخر وضع لنفسه في العام 1993 مقاييس للشفافية يتقيد بها عند تنفيذ مشروعاته الخاصة وللتقييم البيئي من أجل اكتساب المزيد من الصدقية.
ولكي نحدد دور الشفافية الإيجابي في انتشال الاقتصاد الوطني من عثراته ومعالجة المشكلات التي يعاني منها، بوسعنا قراءة الورقة التي قدمها جوجليمو ماريا كابورالي وأندريا سيبوليني من مركز الاقتصاد المالي والنقدي التابع لجامعة سوث بنك بلندن في العام 2001 عندما كانت العملة الأوروبية اليورو تعاني من أحلك أزمة مرت بها. ركزت الدراسة على إمكان الوصول إلى تفسير يشرح ضعف اليورو، وحددتها في فقدان البنك المركزي الأوروبي لسياسة نقدية شفافة. وأكدت الدراسة أن البنك الفيدرالي الأميركي امتلك سياسة شفافية أعلى من تلك التي كان يتمتع بها البنك المركزي الأوروبي، ما انعكس إيجابا لصالح الدولار إزاء اليورو. ومن جانبها، دخلت الأمم المتحدة هذا المضمار بعد أن أدركت الأهمية التي بات موضوع الشفافية يمثلها فوجدناها تصدر في 11 من الشهر الجاري، ومن خلال لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية (UNCITRAL) مسودة إضافات قانونية تتناول مسائل مالية واقتصادية تشريعية ذات علاقة مباشرة بموضوعات الشفافية، تسعى إلى نيل موافقة الدول الأعضاء في الاتفاق عليها. ولا ينبغي اعتبار الشفافية ظاهرة طارئة أو جديدة ففي مطلع القرن الماضي تلمس الأميركي لويس برانديس المعروف بـ «محامي الفقراء» أهمية الشفافية، وعلى وجه الخصوص الجانب المالي والاقتصادي منها، فكتب سلسلة من المقالات التي نشرتها له مجلة «هاربرز» الأسبوعية طالب فيها المؤسسات التجارية والصناعية بأن تكشف أكثر ما يمكن من المعلومات المالية بشأن أنشطتها. ورأيناه في إحدى تلك المقالات يؤكد أن «العلانية هي وصفة دواء الأمراض الاجتماعية والصناعية. (ويضيف) لقد قيل ان ضوء الشمس هو أفضل المبيدات، ومصباح النور الكهربائي هو أكفأ رجل شرطة».
البحرين
في البحرين نجحت مجموعة من الكفاءات الوطنية الحريصة على تفعيل المراقبة على أوجه إنفاق المال العام في تأسيس جمعية للشفافية. وقد نجحت الجمعية في لفت النظر ـ وبشكل علمي رصين ـ لبعض انتهاكات الشفافية في ذلك الشأن، لكن بالمقابل وعلى نحو مواز سرت في صفوف النشطاء السياسيين خلال السنوات الأربع الماضية موجة ترديد عبارة «المطلوب المزيد من الشفافية».
هذه العبارة أصبحت تتكرر بمناسبة ومن دون مناسبة. أحيانا في محلها وأحيانا أخرى ليس في موقعها الصحيح. في البدء لابد من تأكيد أهمية الشفافية بل وضرورتها، ليس لمجتمعات الدول النامية بل حتى لمجتمعات الدول المتقدمة.
فبعد انفجار فضيحة شركات أميركية عملاقة مثل امرون وورلد دوت كوم، ارتفعت الأصوات الأميركية المشككة في كفاءة أداء نظام الإفصاح عن المعلومات في القطاع المالي الأميركي.
وقد كان هناك ما يشبه الإجماع على أن القطاع الخاص لم يكن يطبق سياسة الإفصاح عن المعلومات ـ وهو حجر الزاوية في أي مشروع يطمح الى تطبيق الشفافية ـ إلى أبعد من إطارات القطاع المالي التقليدية الضيقة بالمقارنة مع الحقول التي باتت موضوعات الشفافية تشملها.
الكثير من النشطاء السياسيين في البحرين يحصر موضوع الشفافية في نطاق ضيق جدا ذي خلفية سياسية؛ فالشفافية في مفهومه هي حقه في الاطلاع على المعلومات السياسية التي تخص بلده، أي بمعنى: مطالبة السلطة التنفيذية عبر القنوات الإعلامية الرسمية بالإفصاح عن سلوكها واستراتيجياتها السياسية. أي أن تكون الدولة شفافة في كل خطوة تخطوها.
على رغم أهمية ذلك بل وضرورته، فإنه ليس بيت القصيد الذي من أجله نمت المطالبات بالشفافية. أكثر من ذلك تقود مثل تلك النظرة المحدودة إلى تشويه مفهوم الشفافية، بل وحتى أهدافها.
فالشفافية كما يراها ديفيد ويل، هو الأستاذ في كلية الإدارة بجامعة بوسطن وأحد أفراد فريق مشروع سياسات الشفافية المنفذ في مركز توبمن بمدرسة جون إف كندي حول الحكومة بجامعة هارفارد، هي نظام متكامل يمس قطاعات المجتمع كافة أي القطاعين الخاص والعام، والمؤسسات والأفراد كافة الذين يدورون في فلكيهما. لذلك نراه في ورقته المعنونة «فوائد وكلفة الشفافية: نموذج متكامل للكشف عن الأنظمة في مجتمع ما»، والتي قدمها إلى مشروع سياسات الشفافية الذي يديره مركز توبمن ذات مطالب:
- صناع الأطعمة عليهم الكشف عن المكونات الغذائية لمنتجاتهم للمستهلكين.
- أرباب العمل عليهم إشعار العمال بالأضرار المحتملة من المواد السامة في مواقع العمل.
- المعامل عليها إحاطة التجمعات السكانية القريبة منها بالمواد السامة التي تبثها تلك المصانع.
- المرشحون السياسيون عليهم تزويد الرأي العام بمن يساهم في دعم حملاتهم الانتخابية.
- إدارات الشرطة مطالبة بإطلاع المجتمع على سير الأفراد الذين أمضوا أوقاتا في السجن جراء ارتكابهم جرائم عنف أو جنس.
- إدارة المستشفيات عليها اشعار المزودين بالخدمات الصحية والشركات التي تنشط في قطاع الخدمات الصحية، وكذلك المترددين عليها بالأخطاء العلاجية والصحية التي ارتكبتها تلك المستشفيات.
أما عضو هيئة التدريس في كلية الاقتصاد والسياسات بجامعة كامبريدج البريطانية بيترا غيراتس فيحدد في دراسة نشرت له في مايو/ ايار 2000 إطارا لمفهوم الشفافية، التي يعتبرها بحسب ذلك المفهوم نظاما متكاملا يبدأ بمدخلات هي عبارة عن بيانات ونماذج واستقراءات، تتعرض لإجراءات ذات علاقة بالاستراتيجيات، تتحول إلى مخرجات تمس الاقتصاد بعد تأثرها بحوافز سياسية التي تتحول بدورها إلى حالات بحاجة إلى إجراءات تنفيذية تخضع لعمليات استراتيجية تطرأ عليها بعض المؤثرات بل أن تأخذ هيئتها النهائية في شكل سياسات عامة، ولربما من الظلم مطالبة أنفسنا بالوصول إلى هذا المستوى المتقدم للشفافية، ولعل هذا سبب كاف لدعوة جمعية الشفافية البحرينية إلى تكثيف جهودها من أجل غرس مفهوم متقدم وشامل للشفافية في أذهان المواطن البحريني.
ندرك مسبقا صعوبة مثل هذا التحدي، نظرا إلى العراقيل التي ستوضع أمام الجمعية وفي وجهها. لكن ذلك لا ينبغي أن يثني الجمعية عن المحاولة، ولا يمنعنا من الدعوة. فالشفافية كما رأيناها تتحدث عن مصالح متضاربة لقوى سياسية واجتماعية لكل منها حضورها ونفوذها الذي لن تتنازل عنه بسهولة
العدد 317 - السبت 19 يوليو 2003م الموافق 19 جمادى الأولى 1424هـ