العدد 2611 - الخميس 29 أكتوبر 2009م الموافق 11 ذي القعدة 1430هـ

التراث... المفهوم والتجليات (3-3)

الوسطية الجامعية هي المناهج الأصوب والأفعل في التعامل مع التراث ومع الواقع ومع المعارف التي أبدعها الآخرون، كان تسليط الأضواء، وكذلك جهود الإحياء لقسمات تراثنا الجامعة بين: العقل والنقل والتجربة والوجدان

هذا هو السبيل لجعل هذا التراث الممثل للثقافة المتوازنة التي تعين على الانخراط في «المعرفة الضرورية النافعة التي يزخر بها واقعنا المعيشي.

أي أننا كما نتخذ موقفا انتقائيا إزاء تيارات فكرنا التراثي فإننا يجب - أيضا - أن نتخذ موقفا انتقائيا من المعرفة المبذولة والمعروضة في واقعنا المعاصر.

فنحن لا نريد تراث الجمود عن ظواهر النصوص الموروثة، ولا المعرفة المعاصرة التي يقف أصحابها بجمود عند بعض النظريات الوافدة، وكما نرفض تأويلات الباطنية الغنوصية في تراثنا، فإننا نرفض - كذلك - التأويلات العبثية لما بعد الحداثة، تلك التي تفكك الأنساق الفكرية الحاكمة للعقل الإنساني، وتقذف بالإنسان إلى العدمية والفوضوية واللاأدرية.

وكما نرفض تراثنا الخرافي في المهدية والمهدوية نرفض - كذلك - «معارف» الأصوليات البروتستانية الغربية، التي تنتظر المسيح ليحكم الأرض ألف سنة سعيدة - كما ينتظر بعض منا المهدي الذي سيملاْ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، فانتظار الخلاص والصلاح على «يد الغائب» هو باب للكسل العقلي، الذي يعلق التغيير على الغائب المنتظر، دون أن ينهض للبحث عن وسائل هذا الإصلاح!

وإذا كان تراثنا قد «تدينت فيه الفلسفة، وتفلسف فيه الدين»، فإن خصيصته هذه هي التي تجعلنا نقبل ونتقبل المعرفة العلمية المحكومة تطبيقاتها بالقيم الأخلاقية «ونقبل ونتقبل العقلانية المؤمنة، التي يبرأ فيها الإيمان من الخرافة، وتبرأ فيها العقلانية من المادية والإلحاد».

هذا هو الفكر التراثي الذي يحفز أمتنا - إذا نحن أحييناه، وسلطنا عليه الأضواء - إلى المعرضة الضرورية والنافعة، التي تمثل «الصواب والحكمة» في واقعنا المعيش.


التراث التجديدي

ولقد أبدعت الدعوة الإصلاحية - مدرسة الإحياء والتجديد- في عصرنا الحديث - هذا النموذج «التراثي التجديدي» الذي نحتاج إليه، وصاغ رائد هذه المدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1266 - 1323 هـ 1849 - 1905م ) نظرية في المعرفة تمثل المفتاح في هذا الموضوع «موضوع: كيف يعين التراث في الانفتاح على الجديد والتجديد في ميادين المعارف والمعلوم، دون حدوث قطيعة معرفية مع هوية الأمة وثوابتها...»

صنع ذلك عندما أحيا العقلانية المؤمنة، وسلط الأضواء على السببية وعلى السنن الكونية والاجتماعية، وعندما اتخذ موقفا نقديا من المأثورات والمرويات، وأحيا علم المقاصد، وانتقد الغلو الديني واللاديني، وحارب الجمود النصي والخرافات والشعوذات.

لقد تحدث الإمام محمد عبده عن «الهدايات الأربع» هدايات: العقل والنقل والتجربة والوجدان، فقال: «لقد منح الله الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته: أولاها: هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وتكون الأطفال منذ ولادتهم.

والثانية: هداية الحواس والمشاعر، وهي متممة للهداية الأولى في الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيها الحيوان الأعجم، بل هو فيها أكمل من الإنسان، فإن حواس الحيوان وإلهامه يكملان له بعد ولادته بقليل، بخلاف الإنسان، فإن ذلك يكمل فيه بالتدريج في زمن غير قصير.

والثالثة: هداية العقل، حيث خلق الإنسان ليعيش مجتمعه ولم يعط من الإلهام والوجدان ما يكفي مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية كما أعطى النحل والنمل «فحباه الله هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام، وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه، وذلك أن البصر يرى الكبير على البعد صغيرا، ويرى العود المستقيم في الماء معوجا، والصفراوي يذوق الحلو مرا، والعقل هو الذي يحكم بفساد هذا الإدراك».

والهداية الرابعة: الدين، فالعقل يغلط في إدراكه كما تغلط الحواس، وقد يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية والنوعية، ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال، فيجعلها مسخّرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة» فاحتاج الناس إلى هداية ترشدهم في ظلمات أهوائهم، إذا هي غلبت على عقولهم، وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها، ويكفوا أيديهم عما ورائها، فالإنسان في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة - وقد منحه الله إياها «(الأعمال الكاملة: 43/4 - 45، دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة- طبعة دار الشروق- القاهرة سنة 1993م وطبعة سنة 2 6 م).

فإذا استطعنا أن نحيي من تراثنا- بالتحقيق والنشر والدراسة - مكتبة تقدم للعقل المعاصر هذه القسمات والهدايات الأربع:

العقلانية: التي لا تهمل النقل ولا التجربة ولا الوجدان.

الوجدان: الذي يعصمه العقل والنقل والتجربة من الغرق في الباطنية والغنوص والخرافات.

والتجريبية العلمية: التي ترطبها وتضبطها هدايات الإيمان والقلوب.

والنصوص: التي تعصمها العقلانية المؤمنة من الجمود عند ظواهرها، والتقليد لحرفيتها.

إذا استطعنا تحقيق ونشر دراسة «مكتبة تراثية» تكون هذه العقلية المتوازنة والتي يرطب فيها «القلب» حسابات «العقول» ويوقظ فيها «العقل» ويضبط خطرات «القلوب» إذا استطعنا ذلك - وهو ممكن ومستطاع - نكون قد فتحنا أوسع الأبواب أمام أمتنا لمعارف العصر، التي تشهد ثورة «كمية وكيفية» غير مسبوقة، والتي تسهم في تقدمنا ونهوضنا من المأزق الحضاري الذي نعيش فيه، وذلك دونما قطيعة معرفية مع أثمن وأجمل ما في تراثنا الفكري العريق والغني والعميق.

ولنتذكر دائما وأبدا أن انفتاح العقل المسلم على المعارف الإنسانية - بصرف النظر عن مصدرها - هو القاعدة «وأن الانغلاق هو الاستثناء الشاذ، وصدق رسول الله (ص) إذ يقول: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن «رواه الترمذي وابن ماجة، وفي البخاري تعريف للحكمة بأنها «الإصابة في غير النبوة».

ولقد قال الكندي - الفيلسوف - (260 هـ 873 م): خليق بنا أن لا نخجل من الاعتراف بالحقيقة واستيعابها مهما كان مصدرها»، وقال أبو الوليد ابن رشد (520 - 595هـ 1126 - 1198م): «إنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، سواء أكان مشاركا لنا في الملة أو غير مشارك، طالما كان صوابا».

وقال أبو الوفاء ابن عقيل البغدادي (431 - 517 هـ 1040 - 1119م): «إن السياسة: هي التدبير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد حتى وإن لم ينزل بها وحي أو ينطق رسول».

وقال جمال الدين الأفغاني (1254 - 1314هـ 1838 - 1897م): «إن أبا العلم وأمه هو الدليل والحقيقة تلتمس حيث يوجد الدليل».

هكذا كان - ويجب - أن ينفتح العقل المسلم على «الحكمة» «الصواب العقلي» والإبداع المعرفي» ويجب أن نحيي من تراثنا ما يزكي هذا الانفتاح، فالحكمة والصواب - مهما كان مصدرها لابد أن تدعم هوية الأمة وثوابتها، بينما الجمود والتقليد هما اللذان يقيمان قطيعة مع أصالتنا ومع العصر الذي نعيش فيه.

العدد 2611 - الخميس 29 أكتوبر 2009م الموافق 11 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً