ورد في الرواية أن رجلا قال لرسول الله (ص): «تركت راحلتي في البيداء وتوكلت على الله» فقال له رسول الله (ص) «اعقلها ثم توكل»، اي قم بربطها ثم توكل على الله وسلم أمرك إليه. ان التوكل على الله باعتباره مفهوما تربويا وتعبديا أحد أكثر الأمور التي أكد عليها الدين الاسلامي الحنيف، الى درجة أننا نجد أن الاسلام مرتبط في تسميته بمبدأ التوكل. فالاسلام من التسليم والاستسلام المطلق لله تعالى. هذا المعنى نجده جليا عندما نتحدث عن معاني التوكل على الله.
التوكل من مادة «وكل» ويقال: وكل بالله وتوكل عليه واتكل: استسلم له. كما يقال للشخص الذي يقوم بأمور موكله: وكيل. والتوكل اصطلاحا هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى في جميع الأمور وتفويض كل شيء إليه مع الثقة التامة به والايمان بأنه قادر على كل شيء، ولقد ورد في القرآن قوله تعالى: «ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون» (ابراهيم:12). ولقد روي عن الامام علي (ع) أنه قال: «يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي مما سواه». والتوكل على الله سبحانه وتعالى لا ينافي ابدا الأخذ بالأسباب والمسببات وظواهر الأمور، كما جاء في القرآن الكريم.
بعض الناس يفهم التوكل ليس بالطريقة التي تنبغي، وهو بذلك يأخذ بطريقة «التواكل» ظنا منه أنه يسير على الطريقة السليمة في التوكل على الله. فالتواكل تسليم الأمور الى الله سبحانه وتعالى ولكن من دون الإلتفات الى الاسباب والعلل والوسائل الظاهرية التي تتحرك ضمن السنن الكونية. أحد الآباء يترك ولده الصغير وبيده أعواد الثقاب، فإذا نبهه الآخرون الى ذلك قال: «أنا متوكل في أموري على الله، ولن يحدث إلا ما قدر الله» وهكذا بعض طلبتنا وشبابنا عندما يتجهون الى الامتحان من دون مذاكرة ودراسة، فإذا استنكر أحد طريقتهم قالوا: «لن يحدث إلا ما قدر الله» ولقد روي عن الامام جعفر الصادق (ع) أن نبيا من الأنبياء مرض، فقال: «لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو يشفيني»، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه: «لا اشفيك حتى تتدواى ، فإن الشفاء مني» ولقد روي ايضا أن الرسول الأكرم (ص) قد رأى قوما لا يزرعون فقال لهم: «من أنتم ؟» فقالوا: «نحن المتوكلون» فأجابهم (ص) قائلا: «لا، بل أنتم متكلون». من هذه الشواهد نفهم أن التواكل والتقاعس والكسل بحجة تفويض الأمور لله والتوكل عليه عمل غير صحيح، التوكل الحقيقي على الله لا يكون إلا إذا اقترن بالأخذ بالاسباب والعلل.
خطأ أن نتوكل على الله سبحانه وتعالى ونغفل الأخذ بالاسباب، أيضا من جانب آخر لا يصح أن نأخذ بالاسباب ونهتم بها كل الاهتمام من دون الإلتفات الى أن الله مرجع كل شيء وبيده سبحانه وتعالى كل شيء. الأسباب مهمة ولابد من النظر إليها والأخذ بها، ولكن ذلك لا يعني أن لا نتجه بقولبنا ووجداننا الى الله معتمدين عليه مسلمين أمورنا إليه وحده. فهناك من يعتمد على الطبيب والدواء فقط، وفي رزقه يعتمد على الحوادث والوقائع والأوضاع فقط، من دون الانتباه الى أن هناك سبب حقيقيا يمثل الاساس لجميع الاسباب ولكل العلل قادرا على كل شيء مسيطرا على كل السنن الكونية، وهو الله رب العالمين، أصحاب هذا الفهم سرعان ما تجدهم يعيشون اليأس والخوف والتراجع والقلق والانهزام، وخصوصا في تلك الحالات التي تكون الايام فيها قد انقلبت عليهم وتحولت الظروف الى ما لا يبشرهم بخير. ومن هنا نقول إن على الانسان مع أخذه بالاسباب الالتفات دائما الى أن كل الأمور بيد الله سبحانه وتعالى يقول الله في محكم كتابه العزيز: «ومن يتوكل على الله فهو حسبه» (الطلاق:3). فالمؤمن عندما يتوكل على الله ويكون لديه شعور داخلي وقناعة راسخة بأن الله مرجع كل الأمور وأنه خير وكيل في الدنيا والآخرة، فحينها يكفيه الله سبحانه وتعالى عن أية حاجة لغيره. ولقد ورد عن الرسول الأكرم (ص) قوله: «لو توكلتم على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا». وكما ورد ايضا عن الامام علي (ع) أنه قال في هذا الشأن: «من وثق بالله أراه السرور، ومن توكل عليه كفاه الأمور».
لذلك؛ فالانسان مطالب بأن يتأمل ويتدبر النصوص التي تحدثت عن التوكل أو تطرقت إليه سواء كانت هذه النصوص واردة في القرآن الكريم، أو أنها وردت في السنة المطهرة، وعلى الانسان أن يعتبر بحركة الزمن وتغير الأحوال والأوضاع، فلقد قال الله تعالى: «... وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ...» (آل عمران:140) فتقلبات الدنيا وتحولات الدهر مدعاة للأنسان لأن يتوكل في أموره كلها على الله سبحانه وتعالى. فالمؤمن المتوكل على الله تجده مطمئن القلب، حوائجه ميسرة بتوفيق من الله، يحبه الله تعالى ويحبه المؤمنون «...إن الله يحب المتوكلين» (آل عمران:159) والمتوكل عزيز في الدنيا والآخرة، غني عن سؤال الناس فلقد ورد عن الامام جعفر الصادق (ع) أنه قال: «إن الغنى والعز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا».
حسين محمد الصباغ
العدد 350 - الخميس 21 أغسطس 2003م الموافق 22 جمادى الآخرة 1424هـ