يتمزق الكاتب المسلم أسى عندما يفكر فيما آلت إليه شئون المسلمين، والدرك الأسفل الذي انتهت إليه أوضاعهم وبلادهم، وعندما سلم الملك التعيس أبوعبدالله مفاتيح غرناطة سنة 1492 إلى فرديناند، وإيزابيلا، فإن 800 سنة من الوجود الإسلامي انتهت كأن لم يغن بالأمس، وتداعت الدول الأوروبية دولة دولة على استعمار بلاد المسلمين حتى البرتغال القميئة التي بدأت المسيرة المشئومة، واستولت روسيا على تلك المناطق التي كانت جنة الحديث النبوي ومهد شيوخه وعلمائه بخارى وسمرقند وما وراء النهر.
فقتلت الرجال وهدمت المساجد وأرغمت النساء على الزواج من روس وقيل إن طبول الجيش الروسي كانت حتى القرن السابع عشر تصنع من جلود المسلمين! وتسابقت فرنسا، وانجلترا في احتلال الدول الإسلامية دولة دولة في إفريقيا وآسيا. ولم يأت القرن التاسع حتى لم تعد هناك دولة إسلامية مستقلة باستثناء - صحراء العرب - وأصبحت السيادة والعزة، والكرامة للأوروبيين، وعندما قضي على الاستعمار بالرحيل، فإنه لم «يأخذ عصاه ويرحل» فقد ترك عصاه فيما غرسه من فتن، وما رسمه من حدود، وما اصطنعه من فئات وكان قبل هذا قد نهب الموارد وحاز الثروات فلما استقلت هذه البلاد لم تهنأ باستقلالها إذ اشتعلت فيها نيران الفرقة والفتن التي غرسها الاستعمار وتدهورت أمورها إلى الدرجة التي أصبح بعض أهلها يتمنى عودة الاستعمار وحورب الإسلام في بلاده نفسها بأيدي طغمة عسكرية حاكمة رباها الاستعمار، وربط مصالحها به ففي تركيا - دار الخلافة - حورب الحزب الإسلامي الذي نال غالبية المقاعد في المجلس النيابي حربا شرسة وانتهكت القوانين ومبادئ الحرية والديمقراطية لتحرمه من السلطة وحدث الشيء نفسه في الجزائر فما أن حصلت الجبهة الإسلامية على الغالبية في الانتخابات حتى قبض على زعمائها وزج بهم في السجون فكيف يمكن للدعوة الإسلامية أن تنتصر إذا كانت تحارب في الداخل بأيدي فريق من شعبها؟
وفي الخارج بالاستكبار العالمي والعربدة التي تمارسها القوى الكبرى وخلال القرون الخمسة التي تلت تسليم غرناطة 1492 وأوروبا تتقدم في مجالات الفنون والعلوم، وفي الثلث الأول من القرن الثامن عشر بدأت أولى قفزاتها «النوعية» بتوصلها إلى القوة البخارية والآلات الحديد التي أطلقت الثورة الصناعية فظهر القطار البخاري وظهرت السفن التي تمخر المحيطات ثم ظهرت السيارات التي تعمل بالوقود وبعد ذلك بخمسين عاما اكتشفت الكهرباء وكانت تلك قفزة أخرى نوعية أيضا فتحت آفاق الإضاءة والطاقة والاتصالات حتى انتهى أخيرا إلى الذرة والحاسوب وثورة الاتصالات وازدان سجل الاكتشاف والاختراع والبحث بأسماء عشرات الألوف من العلماء في مجالات الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والرياضة... إلخ وظفر أبرزهم بجوائز نوبل.
بينما لم يظهر من العالم الإسلامي بأسره إلا اسم واحد أو اثنان... ولا تعرف مساهمة يعتد بها لعالم إسلامي بينما يعمل العدد القليل الذي أثبت نبوغا من العلماء المسلمين في خدمة الدول الأوروبية أو الأميركية ويزيدون تقدمها، أليس عارا - لا يعدله عار - أن يعيش المسلمون عالة على غيرهم؟ وألا يظهر منهم من يذكر اسمه وسط عشرات من الأسماء المضيئة النشطة، المبدعة، المستكشفة التي تطلق الآن على النجوم، وعلى أعضاء الجسم، وعلى قوانين العلم والرياضيات... إلخ؟ أليس عارا أن تكون «أمة محمد» هي أكثر الأمم فقرا وضعفا ومرضا وجهلا؟ واستخذاء هذا الوضع المهين الذي يثقل النفس هما ويفعم القلب غما لا يهم في قليل أو كثير قادة «المؤسسة الدينية» في الأزهر بمصر، أو الحوزات بإيران، أو الجامعات بالسعودية، فهؤلاء السادة يعيشون بعقولهم وأفكارهم في عالم يعود إلى ألف عام خلت، ولا يحرك منهم ساكنا عالم العصر بكل ما فيه من دوي وصخب، وهذا أمر طبيعي لأنه إذا كان على أحد الشيوخ أن يدرس الفقه الحنبلي مثلا، فلا يعنيه في شيء إلا ما قاله الإمام أحمد وأتباعه، وبقدر ما يتعمق في هذا بقدر ما يتدعم مركزه الأدبي والمادي ويتلقى الثناء والتقدير، وينال مرتبه، ويعيش عيشة راضية.
ولا يعنيه بعد هذا أن الإسلام كاد أن يشطب من على خريطة العصر، وأن دوله أصبحت رموزا للتأخر والتبعية الذليلة، لأنهم لا يرون في الإسلام إلا التراث، وهم حماته، وهم في أفضل حال يظفرون من العامة بالاحترام وينالون من النظم الحاكمة التأييد والدعم وحسبهم فخرا أن يقال عن مصر أنها بلد الأزهر! أما الحقيقة المؤلمة فهي أن الصورة التراثية الطقوسية التي عرض بها الفقهاء الإسلام - ولم تخلص منها حتى أشد الدعوات الإسلامية تحررا - كانت من أكبر دواعي انصراف مجموعات عدة عن الإسلام.
لأنهم لم يروا فيما يقدمونه إلا الحض على الشعائر والطقوس والتحذير من سماع الموسيقى والغناء ودخول السينما، وأن صوت المرأة عورة وحلق اللحية من الكبائر ولم يتحدثوا عن حرية الفكر التي جاء بها الإسلام وسبق بها الديمقراطية ولا العدل الذي أكده القرآن مرارا وتكرارا وسبق به الاشتراكية، ولم يسمعوا كلمة عن الإنسان وكرامته ولا عن مشكلات المجتمع ولا معاناة الجماهير وحذروهم من الثورة باعتبارها فتنه ومعصية، ولو كانت على أوضاع تبقي الناس في اسار الجهل والذل والفاقة والمرض، ولم يوجهوهم وجهة المستقبل وإنما أبقوهم في ظل الماضي وتجاهلوا الحياة الطيبة التي من حق الناس أن يعيشوها بما فيها من رضا واستقرار وإشباع.
فانفض الناس عنهم وعن الدعوة الإسلامية، ولاذوا بدعوات أخرى أو انطووا على أنفسهم وفي العالم الخارجي، كادت هذه الصورة الطقوسية أن تمحو الإسلام من على خريطة العصر. من هنا، فلا ينتظر أن يكون للمؤسسة الدينية، ولا للفقهاء التقليديين ولا للدعوات الإسلامية على الساحة دور في وضع الاستراتيجية الجديدة للدعوة الإسلامية، بل من المحقق أنهم سيكونون أعداء ألداء لها وقد يصمون أصحابها بالخروج عن الملة، وهذا ما يقال أيضا على الجماعات التي تدعي «الناصرية» أو «الاشتراكية» أو «القومية العربية» فهؤلاء جميعا يربطون أنفسهم وأفكارهم بدعوات نشأت عن ظروف معينة، ونجحت في الوصول إلى الحكم بوسائلها الخاصة من دون أن يكون لها أساس موضوعي متكامل أو أن تتفق مع الإسلام. إن واضعي الاستراتيجية الإسلامية يرفضون هذا ويتمسكون بأن تكون استراتيجيتهم فوق المجاملات والمصانعات أو الأخذ بنصف الحقيقة خشية المصالح والقوى والعداوات أو حرصا على الاستكثار من الجماهير. فالحقيقة كاملة، ولا شيء غير الحقيقة، هي ما يجب أن تقوم عليه الاستراتيجية حتى ولو تكتلت القوى ضدها، وهو ما يجعل واضعيها يقفون في العصر الحديث - من دون مبالغة - الموقف الذي قال عنده الرسول في بدر إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم
العدد 462 - الخميس 11 ديسمبر 2003م الموافق 16 شوال 1424هـ