العدد 469 - الخميس 18 ديسمبر 2003م الموافق 23 شوال 1424هـ

أزمة الهلال عند المسلمين

تحدث في كل عامٍ مرة أو مرتين بلبلة واضطراب بشأن تحديد بداية الشهر لشهري رمضان - وشوال، ما يترك انزعاجا واستياء لدى نفوس المسلمين الى درجة شعورهم بالاحباط واليأس بشأن عموم قضاياهم وشئونهم السياسية والدينية وفقدانهم الثقة في قدرة رموزهم ومؤسساتهم الدينية على حل مشكلاتهم وقضاياهم محملين الموقف العلماء متهمين أنهم وراء هذا الاختلاف والتعدد للعيد في بلاد المسلمين بل في البلد الواحد وحتى القرية الواحدة ما يعني انعدام لذة العيد وذهاب رونقه.

وفي ظل أجواء هذا الاختلاف تتعالى الصيحات من شرائح مختلفة من المجتمع بضرورة توحيد يوم العيد الذي هو شكل ومظهر ظاهري لوحدتهم الحقيقية المطلوبة أمام كل التحديات والمخاطر المحدقة التي يواجهونها وتستتبع هذا الصيحات والأصوات المتعالية اقتراحات وحلول لتوحيد الهلال ويوم الفطر، ولأجل توضيح الموضوع من شرعية وفنية وقبل محاكمة مشاعر الانزعاج والاستياء اللذين يحدثان نتيجة الاختلاف أرى من الضروري التأكيد على أمرٍ والتسليم به وهو إن الاختلاف إذا كان ناشئا من حال نفسية وغلبة هوى وطلبا لتكريس حال الذات وإبراز وجاهتها وصدارتها فهو أمر مرفوض وغير مقبول وهو ما حذر منه القرآن الكريم، قال عز وجل: «إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء» (الأنعام: 159). وقال تعالى «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات» (آل عمران: 105).

وأما إذا كان الاختلاف ودواعيه بعيدا عن حال الهوى النفسي وناشئا من أسباب ودواع علمية وفنية فهو أمرٌ يجب أن نقبله ونعترف به لأنه حال طبيعية لا ينبغي الاستيحاش منها ولا الانزعاج بها ولا تهويل أمرها بل الواجب التعامل معها كما هو الحال في مسائل الاختلاف العلمي والاجتهادي. ونحن بموجب معرفتنا بعلماء الأمة وعلمنا بوثاقتهم ونزاهتهم وسلمنا بإيمانهم وورعهم يمنعنا كل ذلك من حمل الاختلاف بينهم في شأن الهلال على الاختلاف المذموم بل هو اختلاف حاصل من اختلاف المعايير الفقهية والعلمية.

وبعد هذا الأمر الذي أرى من الضروري ألا يغيب عن وعينا في تحليلنا لمثل هذه المسائل أضع أمام القارئ العزيز مجموعة من الحقائق والملاحظات:

الملاحظة الأولى: البعض ينادي بحسم الخلاف من خلال اعتماد الحساب الفلكي والغاء الرؤية تماما والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن الاعتماد على قول الفلكيين أم لا؟

هناك حبلٌ فقهيٌ وعلمي بشأن هذه المسألة لم يحسم بين العلماء، فمن الفقهاء من لا يرى حجية قول الفلكيين باعتبار أن قول الفلكي بتحديد بداية الشهر لا يورث إلا الظن وهو ليس بحجة كما هو مؤسس له أصوليا من أن كل ظن لم يقم الدليل على اعتباره بخصوصة فهو ليس بحجة شرعا ومن جهة أخرى وجود حال التضارب والاختلاف بين الفلكيين انفسهم بشأن هذا الموضوع إذ نجد بعض الفلكيين يصرح بأنه لا يمكن الاعتماد على الحساب الفلكي وأن الحسابات الفلكية ليست بدرجة من الدقة حتى يطمئن لها مدللا على ذلك بمجموعة من الأدلة والشواهد.

ومن جهة ثالثة اختلاف الفلكيين بشأن المدة والزمان الكافيين - ما بين خروج القمر من المحاق إلى ساعة غروب الشمس - للرؤية الفعلية للهلال إذ تختلف تقديرات الفلكيين والفقهاء في مقدار هذا الفاصل الزماني بين (24) و(25) و(7 ساعات) ما يعني ضرورة الاقتصار على التحديد الذي يحصل منه الاطمئنان من دون التحديدات المشكوكة ولا نريد من هذا الكلام إلغاء قول الفلكي من الحسبان بل أريد أن أقول إنه مع حصول الاطمئنان من قول الفلكي من خلال اتفاقهم على المدة الكافية وساعة التولد للهلال وغير ذلك ما يوجب الاطمئنان بقولهم فيمكن الاعتماد على ذلك وفي غير هذه الحال لا يمكن الاعتماد على قول الفلكي بمجرده.

الملاحظة الثانية: من الواضح وجود اختلاف بين الفقهاء بشأن بعض مفردات الاثبات الشرعي للهلال من قبيل اعتبار رؤية الهلال مطوقا وانه هل يمكن اعتبار الهلال في هذه الحال لليلة الثانية أو إنه لليلة الأولى، فهناك فريق من الفقهاء من يرى التطوق وسيلة لاثبات الهلال وانه إذا رؤي مطوقا فهو لليلتين وأن بداية الشهر الشرعي من الليلة السابقة، في حين أن هناك فريقا من الفقهاء يمثلون الرأي المشهور الذي يرى بعدم اعتبار التطوق وأن رؤيته مطوقا ليس دليلا على كونه لليلتين بل يحسب بداية الشهر من ليلة الرؤية وهذا الاختلاف بشأن هذه الوسيلة من الاثبات منشؤه فقهي اجتهادي فمن الفقهاء من لا يرى تمامية الدليل على ذلك فلا يأخذ بالتطوق وهناك من يرى بتمامية فيأخذ به ومن البديهي ان هذا الاختلاف الفقهي سيؤثر عمليا على تحديد بداية الشهور الشرعية. ومثالا آخر موردٌ لاختلاف الفقهاء أنه في حال عدم غيمومة الجو «صحوهِ» هل تقبل البينة في اثبات الهلال أو لابد في هذه الحال من حصول الشياع بالرؤية ولا تكفي البينة فهناك رأي فقهي لا يستهان بدليله ولا يمكن التقليل من شأن مستنده أنه في حال الصحو لا تقبل البينة، فقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع): «إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدى بالتظني وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد رأيته ويقول آخرون لم نره إذا رآه واحد رآه مئة وإذا رآه مئة رآه ألف... الخ).

الملاحظة الثالثة: قد يتوافر مجموعة من الشهود ويشهدون بالرؤية ولكن ليس بالضرورة أن يثبت العلماء الهلال بذلك نتيجة ملاحظة مجموعة أمور ضرورة أخذها في الاعتبار من ملاحظة تزكية الشهود وتعديلهم والموازنة بين شهاداتهم وعدم حصول اضطراب بينهم في الشهادة المؤدية إلى الشك لنا في رؤيتهم للهلال إذ قد يحصل لنا الشك في رؤيتهم نتيجة اختلافهم في تحديد موقع الهلال وقت الرؤية وارتفاعه ومقدار حجمه وغير ذلك ما يكون ذكره مؤثرا في قبول شهادتهم.

الملاحظة الرابعة: وأود أن أختم هذه الملاحظات بالملاحظة الأخيرة وهو أنه قد يكون منشؤ الاختلاف في تحديد الهلال وقبول الشهادة راجع إلى تفاوت العلماء فيما بينهم في سرعة حصول الاطمئنان وبطئه فقد يكون هناك من يسرع حصول الاطمئنان له لأسباب قد يرجع بعضها إلى جهات علمية وبعضها الآخر إلى عوامل ذاتية ونفسية والبعض الآخر يبطئ عنده حصول الاطمئنان نتيجة لعوامل علمية أو ذاتية ولا شك في أن هذه الحالة بين طرفي الافراط والتفريط وأن المعيار في ذلك على الحال المتوسطة بين الحالتين وما أريد أن اختم به هذا الحديث أنه ينبغي علينا أن نفهم هذا الاختلاف في إطاره الطبيعي من دون تهول له وتضخيم ما يؤثر سلبا على واقعنا ويترك انعكاسات سيئة على وضعنا الاجتماعي وخصوصا بعد معرفتنا أن منشأ هذا الاختلاف في كثير من حالاته أسباب علمية وفقهية ومع استيعاب هذا الاختلاف في أطره ومعاييره العلمية لن يكون هناك مجال للتشنج والتحامل.

كاتب بحريني

العدد 469 - الخميس 18 ديسمبر 2003م الموافق 23 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً