العدد 2674 - الخميس 31 ديسمبر 2009م الموافق 14 محرم 1431هـ

لماذا استشهد الإمام الحسين؟ (1)

أبو الأعلى المودودي - مفكر إسلامي 

31 ديسمبر 2009

يقدّم الداعية والمفكّر الإسلامي الراحل أبوالأعلى المودودي (رحمه الله) أطروحة خاصة عن نهضة الإمام الحسين (ع)، يتناول فيها الأسباب التي دفعت لهذه الحركة الإصلاحية الكبرى، لتصحيح الانحرافات التي بدأت في الحكم الأموي، مع التحول عن نظام الشورى إلى التوريث، والقضاء بصورة نهائية على مبادئ الدستور الإسلامي للحكم.

المودودي يذهب إلى أن الحزن على قتل الحسين من قبل السنة والشيعة لا يجدي إذا لم يتم استيعاب الهدف «العظيم» الذي ضحى من أجله الحسين بروحه وبأرواح أسرته وأصحابه. كما يؤصّل التحريفات التي تعرّضت لها التجربة الإسلامية، من حيث انتهاك المبادئ الأساسية، من حيث الانتخاب الحر، ونقض نظام الشورى، وحرية التعبير، وتجاوز فكرة أن بيت المال أمانة، وسيادة القانون والمساواة التامة في الحقوق والمراتب حسب تعبيره.

الأطروحة تفتح أفقا واسعا للنقاش الموضوعي، وإعادة مراجعة هذه الصفحات الحاسمة من التاريخ الإسلامي. قد يتفق القارئ معها أو يختلف، لكنها تبقى أطروحة تستحق العرض.

إسلامية

تتظاهر عشرات الملايين من المسلمين الشيعة ويحزن أهل السنة في المحرم من كل عام ليظهروا غمهم وحزنهم على استشهاد الإمام الحسين (رض) لكن لم ينتبه منهم إلا أقل القليل - بكل أسف إلى الهدف الذي لم يبذل الإمام في سبيله روحه الغالية فحسب، بل ضحى حتى بأطفال عائلته. إن إظهار الحزن والأسى من قبل أهل بيت على استشهاد أحدهم ظلما وعدوانا، وكذلك حزن المتعاطفين والمؤيدين والمحبين لأهل هذا البيت أمر فطري. فمثل هذا الحزن والأسى يظهر من جانب كل أسرة في العالم، ومن قبل المنتسبين إليها، ولا قيمة أخلاقية له أكثر من كونه نتيجة فطرية لحب هذا البيت وحب المتعاطفين معهم لشخص هذا الشهيد ذاته.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: أي شيء تميز به الإمام الحسين فجعل الحزن عليه يتجدد كل عام رغم مرور كل هذه القرون الطويلة؟ فإن لم تكن شهادته لهدف عظيم وقصد جليل فلا معنى إذن لاستمرار الحزن عليه قرونا طويلة بدافع الحب لشخصه والانتساب له، بل وأي وزن يمكن أن يكون لهذا الحب الشخصي - مجرد الحب - في عين الإمام نفسه؟ فإن كانت نفسه أعز عليه من هذا الهدف فلماذا ضحى بها؟ إن تضحيته بنفسه دليل في ذاتها على أن هذا الهدف كان أعز عليه من روحه. ولهذا فنحن إن لم نسعَ في سيبل تحقيق هذا الهدف وظللنا نعمل خلافه، فمهما بكينا على ذاته ولعنا قاتليه، فلا أمل في أن يفني الإمام الحسين نفسه علينا، ويستحسن فعلنا هذا يوم القيامة... كما أنه لا أمل في أن يقيم ربه لبكائنا وحزننا هذا وزنا. فعلينا الآن أن نرى أي هدف استشهد في سبيله الإمام الحسين؟ هل كان يرى نفسه أحق بالحكم فضحى بنفسه لأجله؟ إن من يعرف سيرة بيت الإمام الحسين وسمو أخلاقهم لا يمكن أن يظن - مجرد ظن - أن هؤلاء كانوا يريقون دماء المسلمين من أجل الحصول على السلطة والحكم لأنفسهم. ولو سلمنا جدلا - ولا لقليل - برأي من يرون أن هذا البيت كان يدعي أحقيته بالحكم، فإن تاريخ خمسين عاما - منذ عهد أبي بكر إلى عهد معاوية - شاهد على أن القتل وإراقة الدماء للحصول على السلطة لم يكن أبدا سبيل أهل هذا البيت ولا خصلتهم. ومن ثم فلا محالة من التسليم بأن الإمام كان يرى آثار تغير كبير في المجتمع المسلم آنذاك وفي روح الدولة الإسلامية ومزاجها ونظامها، وأنه كان يعتبر ضرورة منع هذا التغير وإيقافه - ولو اقتضى الأمر القتال - ليس جائزا فحسب بل فرضا مفروضا.


تغير مزاج وهدف ودستور الدولة

أي تغير ذاك؟ إن الناس - بالطبع - لم يغيروا دينهم بل كان الحكام والمحكومون يؤمنون بالله ورسوله وقرآنه كما كانوا يؤمنون به من قبل. وكان قانون الدولة الإسلامية كما هو لم يتغير، وكانت الأمور في عهد بني أمية يفصل فيها في المحاكم وفق أحكام الكتاب والسنة، كما كان الحال قبل وصولهم إلى السلطة، بل إن تغيير القانون لم يقع في أي دور من أدوار الحكومات الإسلامية قبل القرن التاسع عشر الميلادي.

وبعض الناس يركزون على سلوك يزيد الشخصي ويصورونه على نحو يفهم منه الناس خطأ أن التغير الذي نهض الإمام ليمنعه كان فقط مجيء شخص فاسد سيء الخلق إلى السلطة وغير أنه - حتى بعد التسليم بأسوأ ما يمكن تصوره عن سيرة يزيد وسلوكه الشخصي كما هو - لا يمكن التسليم بأن النظام إن كان قائما على أسس صحيحة فإن محض مجيء شخص فاسد الخلق إلى سدّة الحكم يمكن أن يكون أمرا عظيما ينفد منه صبر رجلٍ واعٍ فاهمٍ عالمٍ بالشريعة علما عميقا كالإمام الحسين.

لذا فإن هذا الجانب الشخصي في يزيد لم يكن التغير الحقيقي الذي أقلق الإمام، إن الأمر الواضح الذي يظهر أمامنا جليا من دراسة التاريخ دراسة عميقة أن تغيير دستور الدولة الإسلامية ومزاجها وهدفها كان هو الفساد الذي بدأ بولاية عهد يزيد ثم جلوسه على العرش فيما بعد. صحيح أن كل نتائج هذا التغيير لم تتضح آنذاك إلا أن صاحب البصيرة يستطيع أن يعرف - بمجرد تغير اتجاه السيارة - أن طريقها قد تغير، وإلى أي جهة سيأخذها الطريق الجديد. فكان التغير هو الذي رآه الإمام الحسين وقرر أن يقاتل ويضحي بروحه في سبيل إعادة السيارة إلى طريقها الصحيح.


نقطة الانحراف

ولكي نفهم هذا الأمر فهما تاما علينا أن نرى ما هي الخصائص الأساسية لدستور الدولة ونظامها الذي ظل ساريا أربعين عاما برئاسة رسول الله والخلفاء الراشدين وما هي كذلك خصائص نظام الدولة الآخر - الذي بدا بولاية عهد يزيد - والتي ظهرت في مملكتي بني أمية وبني العباس فيما بعد، فبهذه المقارنة نستطيع أن نتعرف على أي طريق كانت السيارة تسير، وعلى أي طريق سارت بعد وصولها إلى هذا المنعطف. وبهذه المقارنة أيضا نستطيع أن نعرف لماذا قام ذلك الشخص الذي تربى في أحضان رسول الله (ص) والسيد فاطمة، والإمام على وعاش حياته كلها في أفضل مجتمعات الصحابة منذ طفولته إلى يوم استشهاده ليوقف العربة من أن تسير في هذا الخط الجديد بمجرد وصولها إلى هذا المنعطف؟ ولماذا لم يبالِ بنتيجة وقوفه أمام هذه العربة الضخمة المتينة القوية ليغير اتجاها؟


بداية ملوكية البشر

كانت أولى خصائص الدولة الإسلامية الإقرار - لا باللسان فقط بل بالقلوب الصادقة وتأكيد ذلك بالسلوك العملي - بأن الملك لله، وأن الرعية رعية الله، وأن الحكومة مسئولة أمام هذه الرعية، وأنها ليست مالكة للرعية، وأن الرعية ليسوا عبيدا لها، وأن أول فرائض الحكام أن يضعوا في أعناق أنفسهم ربقة العبودية لله، ويذعنوا له ثم بعد ذلك القيام بمسؤوليتهم في تنفيذ قانون الله في رعية الله. لكن الملوكية البشرية التي بدأت في المسلمين بولاية عهد يزيد انحصر فيها تصور ملوكية الله في الاعتراف بذلك باللسان فقط، أما من الناحية العملية فتبنت نفس النظرية التي تبنتها كل ملوكية بشرية وهي أن الدولة دولة الملك والأسرة الحاكمة، وأنها هي مالكية أرواح الرعية وأموالهم وكرامتهم وكل شيء. وإن كان قانون الله قد نفذ في هذه الممالك فعلى العامة فقط في حين بقى الملوك وأسرهم وأمراؤهم وحكامهم مستشنين في الغالب.


أبو الأعلى المودودي

أبو الأعلى المودودي (1321 هـ-1399 هـ / 1903-1979م) ولد بمدينة أورنك آباد في ولاية حيدر آباد بالهند من أسرة مسلمة محافظة اشتهرت بالتدين الثقافة، لم يعلمه أبوه في المدارس الإنجليزية واكتفى بتعليمه في البيت .

عقب وفاة الوالد العام 1917 أدرك الابن أنه أصبح لا يملك إلا بناء الذات فاتجه إلى الصحافة فانضم إلى صحيفة مدينة «بجنوز» 1918، ومنها إلى صحيفة (تاج)الأسبوعية، وفيها كتب افتتاحيات كثيرة تتحمس للمحافظة على الخلافة الإسلامية، وفي هذه الأثناء كتب كتاب «النشاطات التبشيرية في تركيا».

ونتيجة احتكاكه بحركة الخلافة انتقل إلى دلهي عاصمة الهند، وقابل مفتي الديار الهندية الشيخ «كفاية الله»والشيخ «أحمد سعيد»، وكانا من كبار جمعية العلماء بالهند، ووقع الاختيار عليه لرئاسة تحرير الصحيفة التي ستصدرها الجمعية تحت اسم «المسلم» (بين 1921و1923)، وفي العام 1924 أصدرت جريدة «الجمعية»، ورأس المودودي تحريرها حتى 1948.

خلال إقامته في دلهي تعمق المودودي في العلوم الإسلامية والآداب العربية، كما تعلم الإنجليزية في أربعة أشهر، وحصل قراءات فاحصة للآداب الإنجليزية والفلسفة والعلوم الاجتماعية؛ الأمر الذي مكنه من إجراء المقارنة بين ما تنطوي عليه الثقافة الإسلامية وما تتضمنه الثقافية الغربية.أصدر مجلة «ترجمان القرآن» الشهرية المستقلة العام 1932 وكان لها دور أساسي في الحركة الإسلامية في القارة الهندية وتقابل مع الشاعر محمد إقبال الذي أقنعه بالمجيء إلى لاهور ليتعاونا معـا في بعث الإسلام وساند مسلمى الهند حتى قيام دولتهم باكستان.

أسس الجماعة الإسلامية في لاهور، وكان ظاهر هذه الجماعة هو الإصلاح الشامل لحياة المسلمين اليوم على أساس الإسلام الصحيح النقى مما ألصقه به الحاقدون من شوائب، وأما ما خفي فهو أعظم، وهو أن المودودي أراد من خلال هذه الجماعة نشر أفكاره المقامة على الكتاب والسنة، وانتخب أميرا لها في (3 شعبان 1360 هـ الموافق 26 أغسطس/ آب 1941م).

دعا مسلمى الهند في مجلته ترجمان القرآن إلى الانضمام إليها قائلا «لابد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع كل صلاتها بكل شيء سوى الله وطريقه ، جماعة تتحمل السجن والتعذيب والمصادرة ، وتلفيق الاتهامات، وحياكة الأكاذيب ، وتقوى على الجوع والبطش والحرمان والتشريد ، وربما القتل والإعدام ، جماعة تبذل الأرواح رخيصة ، وتتنازل عن الأموال بالرضا والخيار.

وبعد ذلك بعامين في (1362 هـ الموافق 1943م)نقلت الجماعة الإسلامية مركزها الرئيسي من لاهور إلى دار السلام - إحدى قرى بتها نكوت –وسخر قواه وجماعته لمناصرة قضية فلسطين.

ومع إعلان قيام دولة باكستان في (11 شوال 1366 هـ الموافق 28 أغسطس 1947م)، انتقل المودودي مع زملائه إلى لاهور؛ حيث أسس مقر الجماعة الإسلامية بها، وفي (صفر 1367 هـ الموافق يناير 1948م)بعد قيام باكستان بنحو خمسة أشهر، ألقى المودودي أول خطاب له في كلية الحقوق، وطالب بتشكيل النظام الباكستاني طبقا للقانون الإسلامي.

وظل المودودي يلح على الحكومة بهذا المطلب، فألقى خطابا آخر في اجتماع عام بكراتشي في (ربيع الآخر 1367 هـ الموافق مارس 1948م)تحت عنوان «المطالبة الإسلامية بالنظام الإسلامي». وقبض عليه عدة مرات لأسباب مختلقة.

حكم عليه بالإعدام في العام 1953 فوقف ثابتا وقال كلمته المشهورة «إن كانت تلك إرادة الله فإنى أتقبلها بكل فرحة، وإن لم يكتب لى الموت في الوقت الحاضر فلا يهمنى ما يحاولون فعله فإنهم لن يستطيعوا إلحاق أقل ضرر بى «وبعد أربعة أيام فقط من اعتقاله حكم عليه بالإعدام، وهو ما أدى إلى حدوث ثورة من الغضب الشديد في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وتوالت البرقيات من كل مكان تشجب هذا الحكم، حتى اضطرت الحكومة إلى تخفيف حكم الإعدام والحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ولكن ردود الفعل الرافضة لهذا الحكم أدت إلى إصدار حكم بالعفو عن المودودي في (1374 هـ الموافق 1955م).وعندما ساءت حالته الصحية سلم قيادة الجماعة للأستاذ محمد طفيل وتفرغ للعمل الفكري، وكذلك أسهم في إنشاء جمعية الجامعات الإسلامية كمنظمة دائمة.

في العام 1399 هـ منح جائزة الملك فيصل تقديرا لجهوده وتضحياته في خدمة الإسلام.

-وفاته:توفي سنة 1399 هـ - 1979م في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية بعد إجراء عملية قرحة وكان في زيارة لابنه.

العدد 2674 - الخميس 31 ديسمبر 2009م الموافق 14 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً