تزود وسائل الإعلام الرقمية والشبكات الاجتماعية المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني بأدوات للاتصالات والتعبئة. وهي توفر الميادين التي يستطيع فيها الأفراد أن يقدموا آراءهم ويعبروا عن اعتراضهم، وبذلك يعززون الاتجاهات نحو الديمقراطية السياسية.
تساهم تكنولوجيات المعلومات الجديدة في إعادة تشكيل عميق للثقافة السياسية. يعتمد المجتمع المدني في القرن الواحد والعشرين على الإنترنت ووسائل الاتصالات الأخرى في بنيته التحتية، وفي الحصول على «ملاذ آمن» رقمي يمكن فيه توليد النقاشات المدنية. ويصح ذلك على وجه الخصوص في دول تخضع فيها وسائل الإعلام القومية المطبوعة والإذاعية إلى رقابة متشددة. باختصار، مكّنت التكنولوجيا الوسائل الجديدة والحيوية للاتصالات السياسية وجعلت المواطنين يتأقلمون مع التفكير والعمل الديمقراطي.
كثيرا ما يعّرف المجتمع المدني بأنه مجتمع من الناس ذاتي التوليد وذاتي الدعم إذ يتشاطر فيه الناس قيما جوهرية وينظمون طوعا النشاطات السياسية، أو الاقتصادية أو الثقافية بصورة مستقلة عن الدولة. تتشكل مجموعات المجتمع المدني من أحجام عديدة، بدءا من منظمة العفو الدولية مرورا بروابط لعبة البولينغ في الأحياء في الولايات المتحدة والى المجتمعات الموصولة بشبكة الإنترنت حول العالم.
وتكتسب المجموعات الاجتماعية أهمية خاصة خلال موسم الانتخابات لأنها تمثل وجهات نظر متنوعة كما تنشرها بشكل واسع عبر وسائل الاتصالات. إن اتساع الآراء المُعبّر عنها يُطمئن المواطنين إلى أنه في نظام ديمقراطي لا تستطيع مجموعة واحدة أن تدعي بأنها تمثل جميع فئات المجتمع. وبدلا من ذلك، يساهم حشد كبير من المجموعات في تحديد الأهداف القومية وتشكيل السياسات.
تستعمل مجموعات المجتمع المدني الإنترنت كأداة لوجستية للتنظيم والاتصال. وتوفّر شبكة الإنترنت لهم بنية تحتية للمعلومات مستقلة عن الدولة، إذ تتمكن الحركات الاجتماعية من النمو. فعلى سبيل المثال، نظم مواطنون تونسيون يرصدون الفساد في الدولة صفوفهم لإعداد أشرطة فيديو بثت على يوتيوب تظهر زوجة الرئيس التونسي وهي تستعمل الطائرة الرسمية للقيام برحلات تسوّق إلى ميلانو وباريس. وهكذا بدلت شبكة الإنترنت حراكيات الاتصال السياسي في دول عديدة. وهناك، أصبح فضاء الإنترنت المنتدى الذي يتحدى فيه المجتمع المدني الدولة. وفي بعض الدول، يكون هو المكان الذي تتنافس فيه الحركات العلمانية مع الإسلامية، وفي دول أخرى فإنه يُشكِّل منتدى للنزاعات السياسية من جميع الأنواع.
بعد انتهاء الانتخابات، تكون المجتمعات الافتراضية التي ترسّخت خلالها مستقلة دائما تقريبا عن سيطرة الدولة، رغم انه من الممكن مراقبتها والتلاعب بها من جانب الدولة. وفي حين أن أفراد النخبة السياسية يبدأون بإنشاء بعض المجتمعات الافتراضية في جهد منهم للسيطرة على المحادثات عبر الإنترنت، غير أن هؤلاء لا ينجحون في العادة. ففي دول مثل أستراليا، وكندا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة يسمى هؤلاء أحيانا بحركات «استروتيرف» (أي اصطناعية). تكون هذه الحركات مصطنعة، ولا تترسخ أقدامها عادة، وتميل إلى عدم البقاء لفترة طويلة بعد يوم الاقتراع.
ولكن ما يدوم هو الروابط الحقيقية أكثر التي تكونت بين المجموعات المدنية في الدولة وبين منظمات غير حكومية دولية وجمعيات داخل البلاد تتشاطر الفكر ذاته. وتبرز هذه المجتمعات الافتراضية بنوع خاص في البلدان حيث الدولة والنخب الاجتماعية تفرض رقابة قاسية على المجتمعات الأهلية خارج شبكة الإنترنت. ففي الدول التي يتم فيها تقييد المعارضة السياسية السرية، يبرز فضاء الإنترنت كمنتدى بديل. حتى لوحات الإعلانات وغرف الدردشة على شبكة الإنترنت المخصصة لشراء الساعات من الماركات الراقية، تتحول إلى مواقع تمارس فيها حرية الكلام بحيث يحل الدفاع عن حرية الكلام محل الساعات كموضوع الحديث. تسمح شبكة الإنترنت لحركات المعارضة الموجودة خارج بلد يخضع لحكم استبدادي بالوصول إلى نظام الاتصال السياسي وفي أن تصبح جزءا منه. إن حظر الأحزاب السياسية يعني ببساطة أن المعارضة السياسية الرسمية تصبح منظمة عبر الإنترنت، من خارج البلاد. كما يعني ذلك أيضا أن قادة المجتمع المدني يلجأون إلى أشكال تنظيمية أخرى تستطيع أن تستوعبها تكنولوجيات شبكة الإنترنت.
أجرت مؤخرا كل من ماليزيا، وإندونيسيا، وتركيا انتخابات عامة، واستنادا إلى معظم المراقبين جرت الانتخابات بصورة جيدة. لعبت وسائل الإعلام الرقمية دورا في تنظيم الحملة السياسية وبدت الديمقراطية أنها أقوى لهذا السبب. رغم التاريخ المتنوع لكل واحد من هذه البلدان، فقد اتخذت الثقافة السياسية عبر هذه الدول الثلاث سمات مماثلة:
- أصبح لدى المواطنين محتوى دولي متزايد للأنباء التي يستمعون إليها.
- يستعمل أفراد العائلة والأصدقاء شبكات تويتر، فيسبوك، وأوركوت في اتصالاتهم، بصورة مستقلة عن رقابة الدولة المباشرة.
- ازدهر عدد العاملين من المجتمع المدني على شبكة الإنترنت، حتى وعندما قضت الدولة على هذا الازدهار محليا.
- تنجذب النساء إلى الحديث عبر فضاء الإنترنت بطرق لا تتوافر دائما في الفضاء الإلكتروني «الحقيقي».
إن سياسة البحث عن الهوية، ولا سيما بالنسبة للأتراب في المدن من الشباب الماهرين في استعمال التكنولوجيا، يتم التوسط فيها رقميا. فبدءا من الفلسطينيين مرورا باليونانيين، ومن الأرمن مرورا بشعب الهمونغ في الصين، يتعلم مستخدمو الإنترنت الشباب الكثير حول الثقافة والسياسة لديهم في الشتات الذي يقيمون فيه. فهذه الأشكال الجديدة من الاتصال السياسي ساهمت إلى حدٍ كبير في الحملات الانتخابية الإيجابية. وحتى الأحزاب الإسلامية المتشددة، اضطرت إلى تلطيف رسالتها والى استخدام تكنولوجيات إعلامية جديدة لجذب وتحفيز الناخبين.
لا تسبب مواقع تويتر أو المدونات أو يوتيوب أي اضطراب اجتماعي. ولكن اليوم، من الصعب التصور إجراء تنظيم ناجح لحركة اجتماعية وانخراط مدني بدون هذه المواقع، حتى في دول مثل إيران ومصر. لا يملك العديد من الناس في تلك الدول إمكانية الوصول إلى الإنترنت أو الهواتف الخلوية المحمولة. ولكن الذين يملكونها، أي سكان المدن، وأفراد النخبة المثقفة، والشباب، هم بالتحديد السكان الذين يمكنهم تغيير النظام أو الذين يدعمون بصورة ضمنية النتائج الانتخابية. هؤلاء هم المواطنون الذين يدعمون أو يفرون من الحكم الاستبدادي، وهؤلاء هم الناس الذين غيرتهم بصورة ملحوظة اتصالاتهم بأفراد العائلة والأصدقاء بفضل انتشار التكنولوجيات الجديدة للاتصالات.
بعد أن تنتهي الانتخابات، تبقى عادات استعمال وسائل الإعلام الجديدة. أصبحت الانتخابات لحظات حساسة يجرب فيها قادة الطلاب، الصحافيون ومجموعات المجتمع المدني استعمال التكنولوجيات الرقمية. وحتى ولو لم يتم انتخاب مرشحيهم المفضلين، تعتبر عملية التجربة هذه مهمة بحد ذاتها؛ لأنه من خلال استعمال وسائل الإعلام الرقمية يتمكن المواطنون من إنشاء بنية تحتية للمعلومات مستقلة إلى حدٍ كبير عن الدولة. تترك وسائل الإعلام الرقمية تأثيرا يدوم طويلا على المجتمع المدني، تأثيرا يستمر حتى بعد الانتخابات. تسمح شبكة الإنترنت للشباب بأن يتعلم، على سبيل المثال، حول الحياة في دول يتعايش فيها المعتقد الديني والحرية جنبا إلى جنب. ومع مرور الوقت، يتعلم عدد أكبر من المواطنين كيفية استعمال الإنترنت، فيطورون مهارات البحث لديهم عبر الإنترنت، ويصبحون أكثر تطورا في كيفية الحصول على المعلومات وتقييمها واستعمالها.
المعلقون هم على صواب في الإشارة إلى أن الإنترنت تستعمل أيضا لدعم شبكات الإرهابيين. إنهم يلاحظون أن بعض أفراد النخب الحاكمة يسعون، من خلال فرض الرقابة على وسائل الإعلام الجديدة، إلى التوصل إلى وسائل أكثر تطورا للسيطرة الاجتماعية. ولكن هناك وراء هذه القصة أكثر مما يسمى أحيانا «الجهاد الإلكتروني»، «الإرهاب عبر الإنترنت»، «حرب فضاء الإنترنت»، و»الفتاوى الرقمية». مع مرور الوقت، فإن دور وسائل الإعلام الاجتماعية في تقوية المجتمع المدني سوف يثبت على الأرجح مساهمته الأطول استدامة في الثقافة السياسية.
خلال اللحظات الحساسة سياسيا كالانتخابات أو الأزمات السياسية أو العسكرية، فإن أدوات مثل الهواتف المحمولة والإنترنت تعزز الاتصال السياسي عبر ثلاث طرق:
أولا: يُظهر مستخدمو التكنولوجيا معايير قوية استثنائية للثقة والمعاملة بالمثل في أوقات الأزمات. ومن المحتمل جدا أن يتشاطروا الصور، وأن يساعدوا واحدهم الآخر على البقاء على اتصال مع أفراد عائلتهم وأصدقائهم، وأن يساعدوا الناس من خارج مجتمعهم من خلال تزويد المعلومات على الأرض.
ثانيا: كثيرا ما تستنسخ مجموعات المجتمع المدني استراتيجيات الحملات الرقمية التي ينفذها الآخرون. يحصل ذلك جزئيا لأن الناشطين الديمقراطيين سوف يسافرون من بلد إلى بلد لمساعدة المجموعات المحلية خلال الانتخابات. ولكن تُشكِّل الانتخابات أيضا فرصة للمجموعات لكي تتعلم تفاصيل استراتيجيات كل منها لإيصال الأفكار إلى عامة الناس.
ثالثا: تُشكِّل الانتخابات فرصا للتحاور بشأن كافة أنواع المسائل من ضمنها دور تكنولوجيات الاتصالات الجديدة. تصبح الأسئلة حول مقاييس التكنولوجيا، مثل تخصيص حيز الترددات العام، الرقابة الحكومية، والوصول الرقمي، مواضيع مطروحة للنقاش.
قد يصر الناس على وجوب أن يشرح المرشحون السياسيون خططهم لتعزيز استعمال التكنولوجيا وردم الهوة الرقمية بين الذين يملكون الوسائل التكنولوجية والذين لا يملكونها.
تظهر النماذج الإحصائية للانتخابات التشريعية الأخيرة في ماليزيا أن المرشحين المتنافسين الذين كانت لديهم مدونات كانوا أكثر ترجيحا لإلحاق الخسارة بالمرشحين الذين يشغلون المناصب حاليا ممن ليس لديهم مدونات. كما أنه كان من المحتمل أكثر لمرشحي الحزب المعارض الذين لديهم مدونات أن يلحقوا الخسارة بمرشحي الحكومة الذين ليست لديهم مدونات. وقد بات من الصعب اليوم على مرشح سياسي أن يبدو «عصريا» دون أن تكون لديه استراتيجية لحملة رقمية.
البنية التحتية للمعلومات هي سياسة بحد ذاتها. ففي دول عديدة، هي أيضا تشاركية أكثر بكثير من الثقافة السياسة التقليدية السائدة. وبالنتيجة، تُدخل السياسات المستندة إلى التكنولوجيا الجديدة الديمقراطية إلى الترتيبات القديمة التي يدفعها أفراد النخبة. عندما توثق مواطنة إساءة استعمال الحقوق المدنية من خلال هاتفها المحمول، أو تستعمل نموذجا من نماذج برنامج إكسيل لتتبع النفقات الحكومية وتتشاطرها مع غيرها أو تقوم بجمع المعلومات المشتركة حول الفساد الرسمي فإنها تقوي المجتمع المدني وتوجه ضربة في سبيل الديمقراطية. قد يكون تأثير وسائل الإعلام الرقمية الذي يدوم لمدة أطول انه يكيف المواطنين مع الاستهلاك ومع توليد المحتوى السياسي.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعكس بالضرورة وجهات نظر أو سياسات الحكومة الأميركية.
- أستاذ مساعد في كلية الاتصالات وأستاذ مشارك في كلية جاكسون للدراسات الدولية في جامعة واشنطن في سياتل، ولاية واشنطن. وهو مؤلف كتاب «حملات وسائل الإعلام الجديدة والمواطن المُروّض» (2006) وكتاب «الأصول الرقمية للدكتاتورية والديمقراطية» الذي سوف تنشره دار نشر جامعة أوكسفورد في العام 2010.
العدد 2730 - الخميس 25 فبراير 2010م الموافق 11 ربيع الاول 1431هـ