العدد 592 - الإثنين 19 أبريل 2004م الموافق 28 صفر 1425هـ

«أصيلة» من فضاء مهمل إلى مقصد للمشاهير

أكثر من خمس وعشرين عاما مضت على انطلاقة موسم أصيلة الثقافي والدولي الذي يقام سنويا في مدينة أصيلة في المغرب، والبداية كانت في العام 1978 حين تلاقت أفكار مبدع مشروع أصيلة محمد بن عيسى وفنانها الأول محمد المليحي في تحويل أصيلة من قرية صغيرة وصفها المليحي «بالفضاء المهمل» إلى مدينة يقصدها أشهر المفكرين والمثقفين والفنانين بمختلف فنونهم. «الوسط» التقت المليحي وأجرت معه هذا الحديث الذي هو حديث مشبع برائحة أصيلة التي تلمع في عينيه وهو يسرد قصته معها وكأنها قصة عشيقين أبيا إلا أن يرتبطا مع بعضهما بعضا مدة تزيد على ربع قرن، وحين سألناه عن بداياته مع أصيلة، ابتسم وقال: الحديث عن أصيلة لا ينتهي.

البدايات كما يسردها المليحي لها تفسيرات مختلفة، ويقول: «إن أصيلة كانت عبارة عن مناخ غريب في المغرب يناسب عقد السبعينات وكانت عبارة عن مزيج من التحول الذي شهده العالم في ذلك الوقت وما قبل التحولات، تبادلنا (محمد بن عيسى وأنا) آراء وأفكارا لتطوير مدينة أصيلة التي كان يقتلها الإهمال، وتكويني كفنان تشكيلي وهو كفنان أدبي وبصري في الوقت نفسه إلى جانب عدم إغفالنا الاهتمام بالحوادث السياسية خلق نوعا من التواصل بيننا نحن الاثنين، والمد والجزر الذي كان يسود المفاهيم المختلفة بشأن تطور العالم وتعمقنا في صورة أصيلة التي كانت تتسم ببعض الخصوصية لموقعها المطل على المحيط الأطلسي وقربها من قارة أوروبا ما مكنها أن تكون نافذة مطلة عليها، وتركيز الدولة في ذلك الوقت على الاهتمام بالمدن الكبرى واهمال المدن الصغرى. جعلنا نرى في أصيلة خلافا لواقعها صيدا ثقافيا واجتماعيا، فالقرية لها تاريخ وماض مليء بالحوادث وتشهد تعايشا بين المسلمين والمسيحيين واليهود الذين كانوا يقيمون فيها ويقدر عددهم الإجمالي بحوالي 30 ألف نسمة.

ويواصل «ترشحنا انا وابن عيسى لانتخابات مجلس أصيلة البلدي وعلى رغم أننا لم نمثل غالبية أمام حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال اللذين كانا يمثلان عناصر مشبعة بالتأثير الغربي وكانا يشكلان تضامنا مشتركا فاننا تمكنا من الفوز بمقاعد في المجلس ولم يكن هدفنا هو التكتل السياسي وانما انقاذ المدينة واعطاؤها رونقا يشبه المدن الصغرى التي كانت أوروبا تنظر إليها باهتمام كبير، في الوقت الذي أصبح الناس يهتمون بالبوادي بعد أن سيطرت الصناعة والتلوث على المدن. فكان لا بد أن يكون للقرية حق في أن تكسب رونقا يعيد اليها بهاءها».

ويضيف «الأفكار الأولى التي جاءت في أذهاننا لصبغ المدينة بطابع جديد جاءت من واقع الإهمال والتلوث الذي كان يسود المدينة فدعونا عددا من الفنانين لرسم جداريات في الحارات الملوثة حتى يعي سكانها أن بالامكان أن تتحول هذه القرية إلى جنة ويعوا بأنفسهم ضرورة الابتعاد عن رمي القمامة في القرية. والنتيجة كانت إيجابية جدا إذ بدأ الأطفال قبل الكبار يهتمون بتنظيف بيوتهم وحماية الجداريات الملونة والتي بقي بعضها لمدة عشر سنوات من دون أن تمس والاهتمام الإعلامي الذي صاحب تحول هذه المدينة إلى جنة ألوان لفت الأنظار إليها ومن بينها المؤسسات السياحية التي سعت إلى أن تطبق برامجها السياحية فيها». ويصف المليحي ذلك الاهتمام بأنه كان بمثابة «جرس انذار يحذر من أن تقع هذه المدينة في أيدي المستثمرين، فكان أن أسسنا جمعية المحيط الثقافية في ابريل/نيسان العام 1978م التي رافقتها انطلاقة الموسم الثقافي في أصيلة، كما تم تشكيل برنامج ثقافي يتكون من استوديوهات وورش لفن الحفر وأقمنا مسرحا في الساحة لتقديم العروض المسرحية وقمنا بترميم قصر قديم كان يقع في القرية نفسها وأقمنا فيه الندوات ومنعنا دخول السيارات عبر أبواب المدينة ماعدا حالات الطوارئ، وهذا ما ساعد في حصول أصيلة على المزيد من الاهتمام من قبل الدولة التي أمدتها بتجهيزات الماء والكهرباء والهاتف وبنت فيها المدارس الثانوية والحرفية التي تهتم بتخريج المتخصيين في السياحة وبني فيها مركز ثقافي مهم تتوافر فيه قاعة للمحاضرات والمعارض الفنية كما أنه تم في هذا العام تدشين مكتبة مجهزة بكل وسائل التقنية الحديثة وقاعة لعرض الأفلام السينمائية بكل الأحجام ما جعل منها عاصمة ثقافية لم تصل الدار البيضاء إلى مستواها، كما بنيت فيها غرف لاستضافة الفنانين والمثقفين».

ويرجع المليحي الفضل في نجاح المهرجان إلى الملك الحسن الثاني الذي كان يترأس ويفتتح الموسم في كل عام على اعتبار أن المشروع بدأ يلعب دورا كبيرا في التنمية بعد التمويل الذي حصل عليه من قطاعات مختلفة».

أما عن علاقة أصيلة بالبحرين فيقول: «إن موقع أصيلة في الغرب والبحرين في الشرق جعل منهما قطبين يجمعان بينهما العالم العربي، وإقامة فعاليات المهرجان شتاء في البحرين وصيفا في أصيلة تلعب دورا كبيرا في دعم الوحدة العربية الثقافية في هذا القرن وتخلق عنصر تواصل ثقافي أكثر من أي عنصر آخر لم يتم تحقيقه بعد».


موسم أصيلة ورحلة ربع القرن...

خلال موسم أصيلة الثقافي الدولي تحولت جمعية المحيط الثقافي إلى مؤسسة منتدى أصيلة بصفتها منظمة غير حكومية ذات نفع عام، واستضافت مواسم أصيلة عشرات الندوات واللقاءات ونظمت عشرات الدورات في مشاغل الفنون التشكيلية على الصعيدين الوطني والدولي بمشاركة مفكرين ومبدعين من جميع القارات. وأسست أصيلة لأفق رحب للإبداع الإنساني وأصبحت محطة سنوية لحوار الثقافات والحضارات بين المفكرين والباحثين والمبدعين على اختلاف مشاربهم السياسية والعقائدية. وكان ملك المغرب محمد السادس حين كان وليا للعهد رئيسا شرفيا لكل مواسم أصيلة منذ العام 1979م وهذا ما جعل من مدينة أصيلة مدينة عالمية شهيرة. وانعكس كل ذلك في مظاهر لافتة تمثلت في حيازة أصيلة على جائزة الآغا خان للعمارة الإسلامية وتم انشاء مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية. ورممت أسوار المدينة وخصوصا المعلمة التراثية المتمثلة في برج القمرة وتم ترميم وتوسيع قصر الثقافة دار الريسوني وانشاء مكتبة الأمير بندر بن سلطان، وبناء ميناء الصيد البحري الذي يتسع لاستيعاب مشروع سياحي كبير. وإقامة منطقة صناعية للصناعات غير الملوثة، وبناء 600 مسكن اجتماعي لذوي الدخل المحدود. ومشروع جامعة متوسطية متخصصة ومتحف للأعمال الفنية التي أنجزت في ورش عمل أصيلة. وتم بناء أول مركب رياضي لشباب المدينة، وتوسيع شبكة الإنارة في شوارعها وتجديد شبكة الماء الصالح للشرب، وتوسيع المناطق الخضراء وإصلاح الحدائق والبساتين فيها. وبناء قصر جديد للبلدية وعدد من المساجد ومحكمة القاضي المقيم.

كما تأسست تنظيمات ملحقة بمؤسسة أصيلة، مثل: المنتدى الثقافي العربي الافريقي، جامعة المعتمد ابن عباد الصيفية. واستحدثت الجوائز الاستحقاقية مثل: جائزة تشكايا أوتامسي للشعر الافريقي، وجائزة بلند الحيدري للشعراء العرب الشباب، وجائزة محمد زفزاف للرواية العربية.


أصيلة كما يسردها التاريخ

هي بلدة استولى عليها البرتغاليون العام 1471م من البحر وبنوا حولها أسوارا وفي العام 1578م غزاها بحرا الملك سيباستيان الأول على رأس عشرين ألف جندي قاصدا فتح المغرب وقتل هو نفسه في معركة الملوك الثلاثة. ثم سيطر الاسبان على المدينة في أعقاب البرتغاليين وتنازلوا عنها في العام 1589م لصالح الملك السعدي أحمد المنصور. وفي نهاية القرن السابع عشر عاد الأسبان واستولوا على أصيلة مجددا، إلى أن استرجعها إسماعيل العلوي في العام 1691م فأعاد السكان إليها وبنى مسجدين ومدرسة وحمامات.

تعرضت أصيلة لمدافع النمسويين العام 1829م، وقصفها الاسبان العام 1860م. ثم استولى عليها أحمد الريسوني العام 1906م وبنى فيها قصره (قصر الثقافة حاليا) قبل أن يطرده الاسبان منها العام 1924م. وبعد استقلال المغرب العام 1956م رجعت أصيلة كما رجعت سائر المحميات الإسبانية إلى أحضان المملكة المغربية

العدد 592 - الإثنين 19 أبريل 2004م الموافق 28 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً