عند النظرة الأولى قد لا تبدو مدينة مثل (كان) المكان الأفضل لاستضافة واحد من أشهر المهرجانات السينمائية في العالم، فليست هي العاصمة أو حتى قريبة منها. صحيح أن السينما ظهرت أولا في فرنسا، ولكن ذلك كان في باريس وليس في (كان). وقد يكون الجو في (كان) لطيفا ولكن بالتأكيد لا تعتبر تلك ميزة الجذب، فكيف إذن يمكن أن ينتهي الأمر بهذه المدينة الصغيرة لأن تستضيف واحدا من أرقى مهرجانات الأفلام في العالم؟
مثل كثير من الأشياء فقد بدأ المهرجان كنتيجة غير مباشرة لظهور الأنظمة الفاشية في أوروبا خلال فترة الثلاثينات. تعود جذور هذا المهرجان الى العام 1932 عندما أقيم أول مهرجان تنافسي عالمي للأفلام في فينيسيا. في هذه الأيام، أصبح المهرجان يركز على تقديم صورة راقية ومشرفة عن الدول المشاركة كما هي عن الأفلام. مع قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت جوائز مهرجان فينيسيا تتجه بشكل أكبر نحو دول التحالف الفاشي وخصوصا ألمانيا وايطاليا.
في العام 1939 قدمت لفرنسا رشوة لتجعل جائزة المهرجان الكبرى تكون من حظ جان رينوار عن فيلم La Grand Illusion (Grand Illusion) ، ولكن جائزة الأسد الذهبي (التي كانت تعرف حينها بجائزة كوبا موسوليني) انتهت لتكون مناصفة بين الفيلم الألماني Olympia (الذي انتج بالاشتراك مع وزارة الدعاية والاعلام التي كان على رأسها جوزيف غوبيلز)، والفيلم الايطالي Luciano Serra, Pilota الذي انتجه ابن موسوليني. طبعا تسبب ذلك في غضب الفرنسيين وانسحابهم من المسابقة احتجاجا على ما حدث، وكذلك فعل أعضاء لجنة التحكيم البريطانيين والأميركان إذ قدموا استقالتهم للتعبير عن غضبهم لتدمير هذه المسابقة التقديرية الفنية على يد السياسة والايديولوجيات.
لكن حماقة القائمين على مهرجان فينيسيا تحولت الى انتصار لمهرجان (كان)، ففي العام نفسه، قام عدد من النقاد وصناع الأفلام بتقديم عريضة الى الحكومة الفرنسية تعهدوا فيها بتغطية كلف مهرجان عالمي للأفلام بديل عن مهرجان فينيسيا، بحيث يقام هذا المهرجان في فرنسا ويمكن أن تعرض فيه الأفلام وتتنافس فيما بينها من دون وجود أي تحيز لصالح عمل ما، وبعيدا عن أجواء القمع السياسي. ولكي لا تغضب الحكومة الفرنسية موسوليني، لم تكن متحمسة في البداية للفكرة، ولكن الضغط القوي الذي تعرضت له، والذي كان بقيادة فيليب ايرلانغر وروبرت لوبرت، والأب الثاني للسينما ومؤسسها لويز لوميير، نجح في اقناع الحكومة باعطاء الضوء الأخضر لاقامة المهرجان.
تم طرح عدة خيارات كأماكن لاقامة المهرجان، ولكن الاختيار وقع أخيرا على مدينة بياريتز على ساحل الاطلنطي أو (كان) على ساحل البحر الأبيض المتوسط. رسميا، فازت مدينة (كان) بسبب موقعها الساحر ولكن معظم الناس اعتقدوا ان السبب الحقيقي لاختيارها هو حقيقة موافقة المدينة على بناء موقع خاص لاقامة المهرجان.
اقيم الاحتفال الأول في 1 سبتمبر/ أيلول في العام 1939، وقد كان مسئولي المدينة هم من قام باختيار هذا التاريخ لاعتقادهم بامكان استثمار ذلك في اطالة موسم الصيف السياحي في المدينة لمدة اسبوعين. ولكن المهرجان الوليد تمكن من الابتداء قبل ان تندلع حرب فرنسا وبريطانيا المشتركة ضد ألمانيا بعد غزو هتلر لبولندا.
وهكذا حدثت ثغرة في المهرجان خلال الحرب، حتى عاد للظهور كمحاولة ثانية في 20 سبتمبر العام 1946 تحت رعاية وزارتي الخارجية والتعليم الفرنسيتين. وبما أن مدينة (كان) كانت ستفي بوعدها بتخصيص موقع لاقامة المهرجان، فقد أقيم أول مهرجان في أحد الكازينوهات. وعند سن الثانية والثمانين تولى لويز لوميير رئاسة لجنة التحكيم الأولى، إذ أشاد بأعمال مخرجين مثل بيلي وايلدر وديفيد لين وروبرتو روسيليني ووالت ديزني وجاك كوستو. كما تم عرض أفلام تشارلز لوتون، وسيسيل ميل، وهوارد هوكس، والفرد هيتشكوك خارج نطاق الأفلام المتنافسة.
في العام 1974، انتقل المهرجان ليصبح تحت جناح المركز الوطني للسينما الذي كان حديث التشكيل حينها والذي تولى مهمة التنسيق للأعمال التي تقدم من كل بلد. في الأيام الأولى، كانت أفلام المهرجان تختار من قبل الدول المشاركة نفسها، بدلا من اللجنة المنظمة للمهرجان، وكان عدد الأفلام التي يمكنها المشاركة من كل دولة يتناسب مع انتاجها السينمائي. وبالتالي أصبح المهرجان كمنتدى للأفلام أكثر من كونه حدثا تنافسيا كما ان المنظمين حاولوا التأكيد على ضمان أن يعود كل فيلم بأي نوع من الجوائز
العدد 611 - السبت 08 مايو 2004م الموافق 18 ربيع الاول 1425هـ