المتضادان لا يجتمعان «قاعدة فلسفية شهيرة، لكنها لم تستطع أن تفرض نفسها على طفل في العاشرة من عمره، وجه طفولي يحمل البراءة بكل ما للبراءة من معنى، لكن البراءة تلك تنتفي عندما ترى الجزء الآخر من الصورة إذ معاملة الناس عبر طرق تبدو ملتوية وجلوس في طرقات المنامة لأنصاف الليالي ولسان يتخذ من التدليس عادة طبيعية ولا حرج من استعمالها.
طفولة قاسية
وبين هذا وذاك بمقدورك أن تقرأ في ثنايا هذا التناقض في قسمات وجه هذا الطفل البريء، عينان تحملان المعاناة والشعور بالإحباط والقسوة على كل ما في الطبيعة، والسر في ذالك - كما يروي البعض- خلاف اسري كان مآله الطلاق وانفصال الأبوين، ليتركا حسين في ربيع طفولته وسط مستقبل محفوف بالضياع والضبابية، ولكم أن تتخيلوا كل تلك الأعباء الثقيلة الملقاة على كاهل هذا الطفل في ظل مجتمع لم يستطع تقبل هذا النوع الشاذ من الطفولة المعذبة.
«الوسط» راقبت الطفل منذ ما يقارب الستة اشهر، ورصدت الكثير الأمور المتعلقة بحياته، ومن تلك المتابعة خرجنا بمحصلة عجيبة ولربما فريدة من نوعها، كم كبير من المتناقضات اجتمعت في هذا الطفل، فهو من جانب يتمتع بقدرات ذهنية متعددة، لكنه يبدو مخادعا وفي الوقت ذاته ذو حس مرهف، وسريع البديهة، قادر على أن يستميل عطف أي شخص يقابله للوهلة الأولى، يتهرب دائما من قول الحقيقة المرة لكنه يستطيع البوح بها إن تطلّب الأمر، والأغرب من ذلك كله أنه يرفض رفضا باتا اخذ أية أموال من دون شراء سلعة من عنده، اذن لا يمكن أن يطلق عليه متسول أبدا».
وبعد محاباة وعناء كبيرين، أيام بلياليها مرت حتى تمكنا من تصوير الطفل، وسأنقل هنا محاورتنا الصعبة قبل النجاح في هذه الخطوة «راقبناه جيدا، ثم صارحته بالتصوير في وقت لاحق. يتمهل حسين قليلا - وهو يدل على نبوغ غير عادي - لم يرد بالإيجاب على طلبنا، ولكننا لم نلمس منه ممانعة كبيرة، اتفقت مع مصور زميل، وبعد ثلاث ليال أمتثل لأمرنا صورناه فعلا وابتسم أمام العدسة كعادة كل طفل، وبادرنا بالسؤال: أين ستنشر هذه الصورة؟».
ضحية اجتماعية
«لقد لامست هذه الحال الاجتماعية عن قرب، وسألت الطفل بنفسي عن الدافع وراء مكوثه على قارعة الطريق وحتى وقت متأخر من الليل (...) بعد إلحاح شديد أجابني حسين قائلا «أحد أفراد أسرتي هو الذي أمرني بأن أقوم ببيع هذه السلع في الشارع» هذا ما قاله أحد الباحثين الاجتماعيين الذي كان مهتما بهذه الحال أيضا.
ويضيف هذا الباحث الاجتماعي «لم اكتف بمخاطبة الطفل، بل قمت بالتحدث إلى عدد من أقربائه الذين أشار بعضهم إلى أن والد الطفل - المتزوج بزوجة من منطقة أخرى - لا يملك دخلا ثابتا يمكنه من رعاية أبنائه؛ لذلك فهو مضطر إلى اللجوء إلى هذا الخيار، فيما يلقي أقارب آخرين باللوم على والديه، وقد علمت أن والد الطفل لم يعر اهتماما كافيا لهذه القضية، على رغم أن قرارا صادرا من المحكمة ينص على حق الأب في ولاية أبنائه».
وعما إذا كان وضع الأسرة المعيشي صعبا فعلا يجيب الباحث الاجتماعي: «لا أعلم ان كان وضع الوالد صعبا ام لا، وهو بالمناسبة قليل الوجود في المنطقة، لكن الكثير من الأهالي يتداولون خبرا مفاده أن أسرة الأم قد حصلت على ثروة حديثا، وأن صح ذلك فان هذا يضع حدا لرواية العجز الاقتصادي للام والأبناء على الأقل (...) ولكن على كل حال فلو افترضنا صحة رواية الأقارب فإننا نطلب من الجهات المعنية البحث عن وظيفة للوالد لسد هذه الذريعة».
موضحا أن الكثير من أهالي المنامة، بل ومن غيرها من المناطق أيضا قد تعرفوا على شخصية الطفل «لم تعد هذه القضية خفية عنهم، والغريب أن الطفل يتمتع بقدرات عقلية عالية، إلى درجة أنه يستحضر الأشخاص أو السيارات التي أوقفها سابقا، ليبحث عن آخرين ليس لهم علم بقضيته وخصوصا من المواطنين الخليجيين الذين يتراودون على هذا الشارع في ليالي العطل والمناسبات».
كما كانت لنا وقفات متعددة مع البيئة الاجتماعية المحيطة به. وكانت الانطلاقة مع «ت. ن» ( صاحب محل تجاري) يتحدث عن حال الطفل حسين الذي تعرف عليه صدفة مند أكثر من عام ونصف العام بقوله «عرفنا هذا الطفل الصغير في عمره والغريب في أطواره، نراه تارة يمكث بالقرب من الشارع الذي أمامنا إلى وقت متأخر من الليل، وحاولنا بشتى السبل بالرفق أحيانا وبالشدة أحيانا أخرى نهيه عن ذلك، ونصحناه - كما الآخرين - بالتوجه إلى منزله؛ لأن وجوده إلى هذا الوقت المتأخر قد يعرض حياته إلى مخاطر حقيقية، خصوصا وأن هذه المنطقة من العاصمة مكتظة بالأجانب فضلا عن المنحرفين الذين يكون الليل ملاذهم».
أي مستقبل ينتظر حسين؟!
فيما يؤكد أحد قاطني المنطقة «س. م» أن حال الطفل حسين تعد الأولى من نوعها في المنامة: «ولدنا في هذا المكان منذ ما يقارب الخمسين عاما ولم نر مثل هذه الحال قط؛ لأنه لم يكن مألوفا لدينا ذلك «الأسر هنا حريصة على احتضان أبنائها، ومكمن الخطورة الحقيقية هو مستقبل الطفل حسين، فكيف لنا أن نتصور شخصا ناقما على المجتمع والبيئة التي عاش فيها، وهذا سيكون له تأثير وضرر سلبي بالغ في تكوين شخصيته وعلى الأخص في مرحلة المراهقة مستقبلا».
ويرى أن من الضرورة بمكان متابعة هذا الملف وعلى المستويات كافة «يجب على كافة المعنيين بهذا الملف القيام بواجبهم الديني والاجتماعي لحلحلة هذه القضية من خلال المعالجة الموضوعية والحكيمة، بغض النظر عن المتسبب فيها؛ لأن بقاء حسين على هذه الحال يدق ناقوس خطر محدق على المستوى البعيد أو حتى المتوسط، علينا العمل قدر المستطاع على تفاديه، ولا أحد منا معفي من ساحة المسئولية».
بينما يصف لنا مالك أحد المحلات بالمنطقة «ع. ق» تجربته مع الطفل حسين بقوله: «يأتيني الطفل ويناديني بصوت كبير أمام الزبائن بألفاظ نابية غالبا ما تستفز الشخص الذي يقابله، لكنني دائما أراعي كونه طفلا أولا، ويعيش حياة أسرية قاسية ثانيا، لكن الآخرين قد لا يكترثون لهذه الاعتبارات».
ياسين أحمد من منطقة قريبة الى العاصمة، سجل أمامنا إحدى القصص التي شاهدها مع هذا الطفل «قبل نحو أسبوع من الآن عندما كنت واقفا لاشتري العشاء من مطعم في المنطقة، رأيت امرأة نازلة من السيارة وهي تلاحق طفلا يبدو انه في الثانية عشرة من عره، رأيتها تصرخ عاليا: امسكوا الطفل (...) تفاجأت مما حدث، اذ قامت المرأة مع أحد أقاربها بالامساك بالطفل وأشبعته ضربا على رأسه، لا أخفي عليكم في البداية ان قلبي انكسر من هذا الموقف، سألت لاحقا عن قصة الطفل مع المرأة، وتبين ان الطفل رمى زجاجة ماء على سيارة المرأة، كما شاهدت نزاعا حادا نشب بين بعض الأهالي وهذه المرأة لكون الطفل لا يتحمل الضرب بهذه الطريقة، ذهبت المرأة وذهبت الى منزلي، لكن هذه الحادثة لم تغادر بالي، كلي أمل أن أرى هذا الطفل وهو عائد الى أحضان والديه!».
الحل بأيدينا جميعا
مواقف الطفل تلك لا تشكل سوى فيض من بحر من واقعه الاجتماعي الصعب، فقد تشاهده في قرعات الطرقات، ويراودك بصوته الخافت وكيسه الذي يضم بضع عطور أو زعفران في كفيه الصغيرتين. وأمام هذا المشهد الإنساني لا تملك سوى عبّرة تفرض سيلها على وجناتك، لكن المطلوب عبرة لا عبّرة من طفل نقم على محيطه الذي خذله وفضل الآن التمرد عليه، ليوصل رسالة مفتوحة إلى الجميع لفك هذه العقدة، نداء حسين موجه إلى والديه الذي هو بحاجة إلى دفئهما ورعايتهما، ونداء إلى أهل منطقته، ونداء إلى التربويين ونداء إلى المجتمع من حسين عبر صوته الخافت.كل ما تم ذكره من معلومات لا يمكن اعتبارها قطعية، غير أن المؤكد بل اليقين من ذلك كله أن حسين ومستقبله يحتمان علينا تلبية النداء لكي لا يضيعان وسط هذا الزحام
العدد 671 - الأربعاء 07 يوليو 2004م الموافق 19 جمادى الأولى 1425هـ