سرعان ما نسي السفير الليبي في ألمانيا سعيد عبدالعاطي ليالي الأنس التي قضاها في فيينا، إذ خدم بلاده سفيراً سنوات وذلك حين تسلم منصبه الجديد قبل أكثر من عام في ألمانيا. فقد وجد أنه لابد من حل المشكلات المتراكمة وتذليل جميع العقبات لتحسين العلاقات الليبية الألمانية. أول خطوة قام بها سعيد عبدالعاطي كانت نقل مقر السفارة على عجل من العاصمة السابقة بون إلى برلين ومن ضمنها المكتب الطبي بينما بقيت القنصلية في بون. أراد عبدالعاطي الذي لا يخفى أنه مقرب من القيادة الليبية أن يكون على مسافة قريبة جدا من صناع القرارات السياسية في ألمانيا، ولهذا فإن مكتبه الحالي يبعد ضربة حجر عن مقر وزارة الخارجية الألمانية بينما يجري التخطيط للانتقال إلى المقر الجديد للسفارة في ضاحية غرونفالد أرقى أحياء برلين.
قال عبدالعاطي في تصريح لهذه الصحيفة: وجدت أنه لابد من إزاحة جميع العراقيل وفي قمتها حل الخلاف بالمتعلق بحادثة (لابيل). وحصل عبدالعاطي على تأكيد لكلامه حين استضافت برلين في العام الماضي مؤتمرا اقتصادية نظمته المبادرة الألمانية لشمال إفريقيا والشرق الأوسط المنبثقة عن الاقتصاد الألماني شارك فيه عدد كبير من رجال الأعمال من ليبيا وألمانيا. وجاء في الكلمة التي ألقاها ممثل وزير الاقتصاد الألماني في المؤتمرين: ينبغي التوصل إلى اتفاق بين الحكومة الليبية والمتضررين من حادثة (لابيل) وهذا شرط أساسي قبل أن تصبح العلاقات الألمانية الليبية عادية من جديد. أما وزارة الخارجية الألمانية فأكدت أنها ستعارض عقد أي اتفاق بين الاتحاد الأوروبي وليبيا طالما لم يتم حل قضية (لابيل). وتريد ليبيا التوصل مع المفوضية الأوروبية في بروكسل إلى اتفاق للتجارة الحرة في إطار عملية برشلونة. وبعد المصالحة بين ليبيا والولايات المتحدة التي تبعها مصالحة بين ليبيا وبريطانيا والزيارة التي قام بها طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني لطرابلس، حصلت حركة سريعة بين برلين وطرابلس باتجاه إنهاء الخلاف القائم مع المتضررين من حادثة (لابيل) وفي مارس/أذار الماضي بدأت جولات من مفاوضات مضنية لم يجر الكشف عن تفاصيل النتائج التي كانت تسفر عنها حرصا على صفاء الأجواء. في النهاية كان سعيد عبدالعاطي يعرف أنه لا بد من تذليل هذه العقبة ويشعر بعد التوقيع على إعلان نهائي أنه قدم خدمة كبيرة لبلده.
بعد ظهر الثلثاء الماضي صرح السفير الليبي بأن المفاوضات المضنية انتهت وتكللت بالنجاح للطرفين. وفقا لأقواله ستقوم مؤسسة القذافي الخيرية التي يترأسها سيف الإسلام القذافي نجل الزعيم الليبي الذي يعتبره المراقبون في الغرب ولي العهد المحتمل، بدفع تعويضات مالية قدرها 35 مليون دولار إلى المتضررين من الحادث. وتبع صدور هذا التصريح التوقيع على إعلان نهائي في برلين بينما المصافحة الرسمية ستجري بعد أسبوعين في العاصمة الليبية. وهكذا تكون ليبيا قد نفضت عن كاهلها أعباء قضية (لابيل) بعد أن سبق ونفضت عن كاهلها أعباء حادثتي (لوكربي) والطائرة الفرنسية التي سقطت في النيجر.
رحبت الحكومة الألمانية على الفور بالاتفاق معتبرة أن حل الخلاف أزاح آخر العراقيل لقيام اتصالات بين ألمانيا وليبيا على أعلى المستويات. وقال المتحدث الرسمي باسم الحكومة الألمانية بيلا أندا في مستهل عودة الحياة إلى المسرح السياسي في برلين بنهاية الإجازة الصيفية ان المستشار الألماني غيرهارد شرودر قبل تلبية دعوة تلقاها من الزعيم الليبي معمر القذافي لزيارة ليبيا وسيجري بحث برنامج الزيارة في القريب. وتعبر ليبيا أهم مصدر للنفط لألمانيا بين الدول العربية ورابع أكبر مصدر على مستوى العالم بعد النرويج وبريطانيا وروسيا. يذكر أن الاتصالات بين البلدين لم تنقصها أطراف أخرى. فقد زار خبير قضايا الشرق الأوسط في الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحاكم هانز يورغين فيشنيفسكي وهو الرجل الذي تفاوض مع مختطفي طائرة (لاندزهوت) التي تم تحرير الرهائن الألمان في مطار مقديشو في نهاية السبعينات، وتربطه منذ سنوات علاقات صداقة مع قادة عرب، زار طرابلس وأبلغ القيادة الليبية أن المستشار شرودر على أتم الاستعداد لتوثيق العلاقات بين ألمانيا وليبيا لكن ينبغي أولا حل الخلاف بشأن التعويضات للمتضررين بحادثة (لابيل). وكانت محكمة برلين حملت ليبيا مسئولية حادثة (لابيل) في العام 2001.
في البداية لم يرغب وكلاء المتضررين تأكيد تصريحات السفير الليبي، ففي هذا الوقت كان الجميع ينتظرون الانتهاء من إعداد نص الترجمة العربية للاتفاق ليجري مقارنتها مع النص الألماني وبعد وقت قصير صدر تأكيد لسان بيلا أندا المتحدث الرسمي باسم الحكومة الألمانية. ويذكر أيضاً أن المفاوضات النهائية أحيطت بسرية تامة نسبة للحساسية السياسية للقضية. نشأت القضية بعد أن اتهمت الاستخبارات الأميركية الاستخبارات الليبية بالتحريض على تفجير عبوة ناسفة داخل مرقص (لابيل) في برلين الغربية ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص هم: فتاة تركية وجنديان أميركيان وتم جرح نحو 200 شخص. على ذلك أمر الرئيس الأميركي رونالد ريغان بالإغارة على مدينتي طرابلس وبنغازي وكان الهدف قتل الزعيم الليبي لكن القنبلة التي دمرت بيته في طرابلس أسفرت عن مقتل طفلته بالتبني(فاطمة) التي لم يزد عمرها عن عام ونصف. في مارس/آذار الماضي بدأت المفاوضات بين ممثلي مؤسسة القذافي الخيرية ومحامي المتضررين لهدف التوصل إلى قيمة التعويضات ووضعت ليبيا في الحسبان أن حل القضية سيعزز علاقاتها مع ألمانيا وبالتالي مع الاتحاد الأوروبي وستزول آخر عقبة أمام بدء تعاون اقتصادي موسع مع الأوروبيين.
حتى وقت متأخر من ليل الاثنين جلس المحامون في إحدى قاعات فندق (وستن غراند) الفخم في برلين كل طرف يحاول الحصول على ما يريده وفي النهاية توصل الجانبان إلى حقيقة وهي انه بعد طول انتظار ومفاوضات مضنية ومواقف معروفة فإنه لابد من التوصل إلى نتيجة وهذه النتيجة ينبغي أن تكون بصورة حل وسط وحل نهائي. هكذا وافق محامو المتضررين على العرض الأخير الذي ورد من ليبيا ويقضي بحصول الأشخاص الذين تعرضوا لإصابات بليغة على 190 ألف دولار للشخص الواحد وأسرة الفتاة التركية التي قتلت في الحادث على مليون دولار. وصف المحامي سفين لايستيكوف الذي يمثل مصالح عدد من المتضررين هذا الاتفاق بأنه منصف.
بالنسبة إلى ليبيا فإن حل قضية (لابيل) بصورة نهائية يخدم مصالحها وسياستها الخارجية الجديدة بعد أن فعلت القيادة الليبية كل ما بوسعها للخروج من العزلة التي فرضت عليها لسنوات طويلة. وكانت قمة هذه الخطوات تخلي ليبيا عن العمل ببرنامج لإنتاج أسلحة الدمار الشامل. سبق ذلك حصول ليبيا على تعاطف في العالم الغربي حين تدخلت للإفراج عن رهائن غربيين أسرتهم جماعة أبوسياف في جزيرة (جولو) في الفيلبين بينهم أفراد أسرة فالارت الألمانية. أوفدت ألمانيا وزير الخارجية يوشكا فيشر إلى طرابلس لنقل شكر الحكومة الألمانية للقيادة الليبية. تبع ذلك تدخل ليبيا لهدف الإفراج عن رهائن غربيين في صيف العام الماضي بعد أن اختطفتهم جماعة متشددة. وقال المتحدث الرسمي باسم الحكومة الألمانية ان الاتفاق فتح الطريق الآن أمام صفحة جديدة للعلاقات مع ليبيا. إنها دعوة إلى الاقتصاد الألماني الذي كان ينتظر هذا الاتفاق على أحر من الجمر، ففي القريب سيجري في طرابلس التوقيع على اتفاق لحماية الاستثمارات، كما ستستضيف ليبيا مؤتمرا اقتصاديا ليبيا ألمانيا يجري فيه وضع خطط الاقتصاد الألماني لتحديث الاقتصاد الليبي. لكن قضية (لابيل) لم تنته كليا، ففي الولايات المتحدة ينتظر متضررون أميركيون الحصول على تعويضات وستبدأ مفاوضات مع ممثليهم في القريب ومن المنتظر أن يحصل الأميركيون على تعويضات أكبر. لكن الخاسرين في القضية هم أبناء ليبيا الذين أصابتهم صواريخ الطائرات الأميركية ونسفت دورهم وأودت بأرواح كثيرين في بنغازي وطرابلس، لأن واشنطن ترفض الحديث مع ليبيا عن مسألة التعويض على المتضررين الليبيين
العدد 707 - الخميس 12 أغسطس 2004م الموافق 25 جمادى الآخرة 1425هـ