العدد 742 - الخميس 16 سبتمبر 2004م الموافق 01 شعبان 1425هـ

الإمام علي (ع) وحقوق الإنسان (2 - 2)

أدرك في ضوء عقله الجبار أن الطبقية المادية في الناس ان هي الا سبيل لن يؤدي السير فيها إلا إلى غايات منكرة من الجمود في العقل والخبث في النفس والى التعسف والنكاية والفجور في الحكم والمعاملة ثم الى الفساد العريض وسائر الأوضاع الملفقة في هذا الجانب الغاصب المنكب على طلب الجاه والثروة بغير بلاء. كما يؤدي الى السقم في الحال والشعور بهوان الحياة وسوء الظن بالإنسان والى التباغض والتحاسد في الجانب الآخر الذي يذهب جهده إلى سواه وفي الجانبين تستقر العوامل المؤدية في النتيجة الى انهيار المجتمع انهيارا لا شك فيه حتى لكأن طبقتي المجتمع هاتين ما هما إلاّ فكّان طاحنان تنسحق بينهما الكفاءات والحقوق وتتمزق الضحايا!

كانت قاعدة الارستقراطيين النبلاء في أواخر خلافة عثمان ولا سيما الامويين منهم أن يخرج معظمهم على سنن الا سلام في طلب العدالة والمساواة في الحقوق وأن يدلوا الجماهير ويستعبدوها ويلقوا في صفوفها الخوف من الحاكم والذعر حتى من المثول بين يديه وأن يهدروا دماءها كما يهدرون حقوقها اذا وقع ذلك في نفوسهم موقعا حسنا والا يعفوا عن الرشوة وما اليها ثم يبعثوا عن أنفسهم ارهاصات تـنبئ بما هم ساعون فيه أو مقبلون عليه من تخضيب راياتهم بدماء الذمم والحقوق العامة وتحويل الخلافة الى ملك وديمقراطية الإسلام الى عنجهية حكم فردي، وبات هؤلاء بين صلابة الإمام علي في العدالة الاجتماعية وبين مطامعهم في الرئاسة والولاية والمال يسلكون مسلك المقامرين يترقبون مفاجآت الربح والمغنم بين حين وحين.

ولما كانت قاعدة أولئك القوم هذا الفيض من المطمع المنحرف وهذا الاسلوب في التربص بالعدالة الاجتماعية للتركيز - من جديد - على قواعد من الوثـنية السياسية والوثـنية الاجتماعية كان علي ابن ابي طالب (ع) أمام تجربة قاسية غاية في القساوة تتـشابك عناصرها وتتداخل وتفرض عليه موقفا هو من الصعوبة بحيث يتعسر على صاحبه مداراة الأزمة والخروج منها والعصر اضطراب وقلق وحوادث رهيبة وهو من الخطورة بحيث يترتب عليه الى حد بعيد مصير الخلافة والإسلام وما يستوجبانه من الناس من فضائل خلقية وعدالة اجتماعية وهو من الدقة بحيث يكون المحك لشخصية صاحبه وحقيقة مواهبه في الوفاء للحقوق العامة ومضاء عزيمته في اشاعة الفضائل الفردية والاجتماعية وطاقته على الصبر والصمود.

كان علي ابن ابي طالب (ع) أمام تجربة أشبه بالتجربة التي مر بها النبي (ص) في المعركة القائمة يومذاك بين السماح والديمقراطية وإشاعة روح العدل من جانب وبين الغدر والاستئثار وعقلية التجار والنبلاء من جانب آخر، كان الإمام أمام تجربة قاسية! ولكن هذه القساوة انما نأخذ معناها وصيغتها من المراقبين البعيدين. أما في قلب الإمام وفي ذهنه فما هي من القساوة بحيث تجعله يحيد عن الطريق التي ارتضاها مسلكا ولو قيد شعرة، فمن أوتي الطاقة التي أوهبها الله علياً (ع) هانت لديه القساوات الا قساوة القعود عن إشاعة العدالة ورح الحرية والعمل على زرع الفضائل الخلقية التي تصون هذه الحرية وهذه العدالة.

أما محمد بن عبدالله (ص) فقد صم آذان أبي سفيان وأبي لهب وحمالة الحطب وآكلة الأكباد وتجار قريش بهذه الصيحة التي نسفت بنيانهم نسفا ودكت سقوفهم دكا وقوضت جدرانهم تقوضا وكانت على قلوب المستضعفين والأرقاء بردا وسلاما ونعمة موفورة: (يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الا مر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته!).

أما محمد بن عبدالله (ص) فيوم قالوا له: (ان كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من اموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا. وان كنت تريد ملكا ملكناك علينا) أجاب يقول: (ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني اليكم رسولاّ وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربى. فإنْ تقبلوه فهو حظـّكم في الدنيا والآخرة، وإنْ تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم). أما علي بن ابي طالب (ع)، فماذا كان من شأنه مع وابن الحـّكم وتجار الولايات والجيوش المجرورة بالغباوة والمنفعة ومع المساومين حتى في حدود العقيدة والاتجاه؟

لقد صم آذانهم هو أيضا بهذه الصيحة التى نسفت بنيانهم نسفا ودكت سقوفهم دكا وقوضت جدرانهم تقويضا وكانت على قلوب المستضعفين والمظلومين والمعذبين بردا وسلاماً ونعمة موفورة: (أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم! والله ما أمرت بالجور ما أمّ نجم نجما! وايم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وان كان كارها ! والله اني لأعترف بالحق قبل أن أشهد عليه! والله ما ابالي أدخلت على الموت أو خرج الموت إليّ!).

أما علي بن ابى طالب (ع) فيوم قالوا له: نحن أعزة قوم! أجاب يقول: (الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له. والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه!) ولكن، كيف أطلق عليا (ع) قوليه من نطاق البيان الى نطاق العمل؟ من الفكرة المعقولة الى التجسـيم المادي؟ وماذا كان من أمره وأمر الناس؟!

من نهج البلاغــة

«أما بعد فإن الله لم يقصم جباري دهر قط إلاّ بعد تميل ورخاء ولم يجبر عظم أحد من الأمم الأبعد أزل وبلاء وفي دون ما استقبلتم من عتب وما استدبرتم من خطب معتبر. وما كل ذي قلب بلبيب ولا كل ذي سمع بسميع، ولا كل ناظر ببصير، فيا عجبي ومالي لا أعجب من خطا هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون عن عيب، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المعروف عندهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلا ت الى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم كأن كل أمري منهم امام نفسه قد أخذ منها فيما يري بعري ثـقات وأسباب محكمات»

العدد 742 - الخميس 16 سبتمبر 2004م الموافق 01 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً