العدد 762 - الأربعاء 06 أكتوبر 2004م الموافق 21 شعبان 1425هـ

المعامير... قرية تحت الحصار والإقامة الجبرية!

منذ مطلع الأربعينات من هذا القرن وتحديداً بعد اكتشاف أول حقل نفطي في البحرين العام 1932م تم إنشاء مصنع تكرير البحرين (بابكو) جنوب غرب قرية المعامير وبعض القرى القريبة منها إذ كان هذا المصنع بمثابة النقلة النوعية المشهودة لأهل البحرين لاسيما على المستويين المعيشي والاقتصادي لجميع أبناء هذا البلد المعطاء وهنا يذكر كبار السن في القرية أن أهل المعامير عارضوا مد الأنابيب التي تمر بمحيط القرية لتفصلها عن البحر جنوباً وبعدها دارت مفاوضات بينهم وبين رجالات الحكومة وعلى رأسهم الإنجليز الذين توصلوا إلى تسوية متفق عليها مع مختارها الحاج إبراهيم بن عباس ويذكر بعضهم أن شركة بابكو قامت بتوزيع مادة «الصل» وهي مادة لطلاء السفن والبوانيش إذ كانت آنذاك غالية الثمن بالنسبة إلى أهل القرية البسطاء الذين كانت غالبيتهم تعمل في البحر والغوص ويقول بعضهم إن شركة بابكو أعطتهم وعوداً بأولوية توظيف أبناء القرية وبعد موافقة رجال القرية تم تشغيل وتوظيف الكثير من أبنائها وبصورة دراماتيكية سريعة اعتزل أهل القرية البحر وأهواله الذي كان مصدرهم المعيشي الوحيد. ويذكر بعضهم أنهم كانوا يرون الشركة الجديدة بمثابة الخير الذي نزل عليهم من السماء فتوجهوا إلى العمل في بابكو التي يشهد الكثير من رؤسائها ومديريها أن أبناء القرية كانوا من المتميزين في هذه الشركة بل لم تكن تخلو بعثة دراسية من أبناء المعامير الذين مازالوا يحتفظون بذكرياتهم عبر الصور التي يعلقونها على جدران بيوتهم.

وشخصياً شاهدت بعضها وكانت صوراً جميلة لأنها تعبر عن صبرهم وكفاحهم في طلب العلم وكانت الغربة في تلك الأيام قاسية جداً عليهم فهم لم يتعودوا على مغادرة القرية الصغيرة التي ترعرعوا فيها ولا السفر للخارج وإذا بهم يجوبون شوارع أوروبا وجامعاتها ومعاهدها المشهورة، حتى حصلوا على شهادات عالية جعلتهم يتبوأون مراكز عالية في شركة بابكو. وما إن تتحدث معهم عن تلك السنين المريرة والقاسية حتى يهيج الحنين لتلك الأيام، فهي أيام شبابهم وهم يعتزون بها كثيرا ومازال بعضهم يتذكر أن شباباً توفوا في حوادث العمل الشاق وذلك لبساطة أجهزة الأمن والسلامة كون الشركة حديثة العهد والنشأة ولم تكن تملك الخبرة الكافية في هذه الأمور. ومنذ تلك السنين وما تحمله من ذكريات جميلة وحزينة لأهلها البسطاء أصبحت هذه الأرض التي قامت عليها بابكو منطقة صناعية مميزة تجتذب المستثمرين ولذلك تأسست الكثير من المصانع والشركات بكل أشكالها وألوانها المختلفة وظلت تزحف نحو القرية الوديعة وتلتهم الكثير من الأراضي من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال حتى لاصقت جدران تلك المصانع والشركات بيوت القرية وجعلتها في حصار محكم وهي التي لم تكن تتخيل أن يصل زحف هذا الشبح المخيف ليفتح فكه المرعب ويفترس الحلم المتبقي من النخيل والزرع والآبار والبراري الخضراء بل ويمتد إلى شاطئها الساحر والرمال الصفراء الذهبية التي تحولت إلى وحل اسود ومرتع للفئران والحشرات الضارة. كان هذا الشاطئ غنياً بالروبيان والميد وقبل سنوات ليست ببعيدة كان آباؤنا يصطادون فيه الكثير من أنواع السمك مثل: الهوامير، السبيطي، الصافي، العريضي وغيرها من الأسماك التي لم تعد موجودة. وكم كانت لهذا الشاطئ ذكريات رائعة وجميلة لكل أبناء القرية صغاراً وكباراً فلا أتصور أحداً من المعامير لم تطأ رجلاه صخرة الجوة (صخرة تقع وسط السيف كان الأهالي يقفزون منها ويسبحون ناحيتها) وللأسف وصل الردم إليها بل تعداها ليخفي معالمها وأصبح الأهالي اليوم يخافون النزول في البحر خوفاً من الوحل الأسود الذي يصل في بعض الأماكن لأمتار عدة ما يشكل خطراً على الأطفال. والغريب أن هذه المصانع مازالت تلوث وتردم عبر الدفن ورمي المخلفات في كل يوم أجزاء لا يستهان بها الساحل الصغير من دون أية ممانعة من الجهات الرسمية في الدولة وبات من الواضح جداً أن سوء التخطيط كانت له أضرار خطيرة على الساحل والمنطقة برمتها واني على يقين أن الجميع لا يعلم بمدى خطورة الوضع. وهنا سنذكر موجزاً مصغراً لأضرار بعض المصانع المحيطة بالقرية ومنها.

شركة بابكو: وهي تحيط بالقرية من جهتين الأولى مصفاة التكرير وتقع جنوب غرب المعامير بنحو كيلومتر واحد والثانية تقع شرق المعامير تقريباً ونقصد مخازن النفط والخزانات الكبيرة البيضاء ونسميها (الورف)، وهاتان المنشأتان تبثان مواد خطيرة فحتى أكوام الكبريت الأصفر العملاقة يمكنك أن تشاهدها وأنت واقفاً مكانك في القرية ومن المعلوم أنها مادة كيماوية خطيرة وكان من الأولويات على بابكو أن تقوم بوضعها في مخازن محكمة وبعيدة عن حرارة الشمس والهواء الذي ينقل أضرارها إلى الأهالي الآمنين ولا ننسى تلك الأعمدة الطويلة التي تحرق الغازات السامة مخلفة دخاناً ملوناً، ومن المضحك أن بعض ليالي المعامير تكون كالنهار بفعل تلك النار الضخمة التي تضيء سماء القرية. أما الدخان فحدث ولا حرج حتى أننا أصبحنا نسمع صفارات الإنذار التي تشير إلى تسرب غازات من الخزانات أو الأنابيب ونحن في بيوتنا بل نشم هذه الغازات على أصوات هذه الصفارات وبعض الأحيان يختبئ بعض الأهالي في بيوتهم من شدة الروائح الغريبة التي تشبه البيض المتعفن والأخرى تجعلك خمولاً للغاية وإلى الآن لم يتضح للأهالي حجم الخطر الذي ينتج عن شم هذه السموم.

مصنع ألبا للألمنيوم: وهو الآخر تغطيه طبقات الكربون الكثيفة وبعض المواد السامة وان حاول بعض المسئولين نكران ذلك بزعمهم أنها مواد لا تشكل خطراً على الأهالي فنحن ندعو الجميع إلى القيام بجولة سريعة على محيط هذا المصنع ليكتشفوا خطر المواد التي تحيط بهذا المصنع والتي لم تبق زرعاً ولا حرثاً غير جذوع النخيل الخاوية والمساحات الكبيرة المكفهرة التي يغطيها الكربون الأسود والمواد المتأكسدة مع الألمنيوم حال صهره ومن المؤكد أن هذه المناظر الحزينة في واقع الأمر كانت بفعل المواد التي لم ولن نعرف مدى خطورتها فهل تكشف لنا الأيام عن القليل من المخاطر التي هي سر محظور عن الذين يدفعون ثمناً باهظاً بلا مقابل أو فائدة مرجوة.

مصنع البتروكيماويات: والاسم وحده يكفي ليبعث في نفوس الناس الشؤم والخوف إذ لا يخفى على أي أحد ما ينتج عن هذا المصنع من أضرار خطيرة للغاية ومازلنا نتمنى من القائمين عليه أن يكشفوا لنا أسرار الدخان والغازات والمواد التي تنبعث من أعمدة هذه المنشأة التي لا تبعد عن قريتنا كيلومترا ولاشك في انه من حقنا أن نطالب بذلك وخصوصاً بعد أن أصبح واضحاً أننا من أكثر المتضررين وقائمة المرضى والأموات بسبب السرطان في القرية خير شاهد على ذلك وكلامنا هذا مدعوم بشهادة الاختصاصيين والخبراء الذين كشفوا القليل من أخطار هذا المصنع الذي تناطح أعمدته سماء القرية.

محطة الرفاع لتوليد الكهرباء: وهي الأخطر فإذا ما هبت الرياح من الغرب إلى الشرق فإن الدخان يغطي بيوت القرية فيخال لنا أننا نعيش في فيلم من أفلام هوليوود التي نشاهدها عبر الشاشات الخيالية. وأذكر أن أحد الأجانب الذين أعرفهم قال لي ذات يوم إن هذه المحطة لو كانت في بلد أوروبي وقريبة من منطقة سكنية لثار أهلها وطالبوا حكومتهم بنقلها بعيداً عن الأهالي ولذلك أتصور أن بعض حالات السرطان التي أصيب بها بعض أبناء قريتنا كان سببها هذه المحطة وان لم تكن هي السبب الرئيسي فإنها عامل من عوامل هذا المرض ونحن ندعو كل المهتمين بشئون البيئة إلى أن يأتوا لمشاهدة أعمدة الدخان التي تنبعث من هذه المحطة بين الفينة والأخرى وخصوصاً وقت الغروب الذي يغطي الدخان ملامحه وما تبقى من قرص الشمس ليحول هذا المنظر بالدخان الأصفر إلى منظر مشئوم أشبه بساحة حرب طاحنة.

المسلخ المركزي وحظائر الأغنام: ولهذه الحظائر قصة طويلة ومشكلات لا تنتهي فمع إشراق كل صباح لا تشرق الشمس إلا بعطرها الفواح لاسيما إذا كانت الرياح تهب من الشرق لتزور كل بيت في القرية تقريباً وهذه الحظائر الممتدة على طول الساحل الشرقي للقرية تشتد رائحتها في الشتاء أضعاف المرات عن بقية الفصول لأن الأمطار تتخمر مع فضلات الأغنام والخراف فينتج عنها رائحة نتنة جداً وتكون وكراً للكثير من الحشرات الضارة وغيرها مثل: الصراصير، الذباب، البعوض والسوس الذي ينتشر بصور كبيرة على طول البيوت الممتدة على الساحل وربما يتخطاها ليصل إلى عمق بيوتنا البعيدة عنه. ولأكوام السماد المكدسة خارج الحظائر عامل فعال في نشر البعوض والروائح الكريهة. أما المسلخ فلا مفر منه ومن روائح الجلد المتخمر والمصارين النتنة وباقي فضلات الذبيحة التي يعلم الجميع شدة نتانتها حين تترك لفترات متفاوتة متكدسة ثم تنقل إلى مصنع يقع غرب المعامير وهو أقرب من المسلخ وتكون الرائحة فيه أقوى بكثير لأنها تتخمر وتنتن بعد أن كانت طرية في المسلخ. وما يضاعف الرائحة التي تنبعث من المسلخ أنها تأتي من أحواض كبيرة تكون هي خزانات المياه التي تغسل فيها الذبيحة وهي مفتوحة على الهواء ويمكن مشاهدتها بجولة سريعة إلى المسلخ من جهة الغرب وحتى مياه هذه الأحواض تكاد لا تبين من الأوساخ وفضلات الذبيحة وهي أفضل مكان لتجمع البعوض والذباب وهي مصدر واضح من مصادر انتشار الأمراض. وهنا اذكر نكتة طريفة لأحد أهالي القرية حين كان من ضمن المطالبين بنقل المسلخ أو تحجيم أضراره قال حينها: «إما أن تقوم الحكومة بنقل المسلخ أو تقوم بسلخنا فيه» ولعل هذه الجملة تعبر عن القليل من معاناة الأهالي وما نتمناه أن يتم نقل الحظائر في المرحلة الأولى على الأقل لأنها تطل على القرية مباشرة وأضرارها تصل إلينا في دقائق معدودة لأنها أقرب من المسلخ الذي لا يبعد عن القرية مسافة كيلومتر ونصف.

مصانع الرمل والخرسانة المسلحة: والتي قامت بدور كبير وفعال في ردم الساحل بمخلفاتها وتحويله إلى أرض طينية وهي الآن لا تصلح حتى للمشي أو الزراعة مستقبلاً. وللقرية قصة طويلة من المعاناة مع الأنبوب الممتد من عمق المصانع ويجتاز القرية ليصل إلى وسط الساحل فيتقيأ الأوساخ الممزوجة بالمواد الغريبة مع الأتربة الموحلة التي دفنت حوالي أكثر من 3 كيلومترات من الشاطئ الطويل وهذا أدى إلى نفوق الأسماك بسبب التلوث وضحالة الشاطئ وانسداد مصادر جريان الماء. وتقدمت القرية بشكاوى كثيرة للجهات المختصة لمنع تدفق هذا الأنبوب الذي حوّل الشاطئ إلى منطقة خطرة وما إن تقف عليه حتى تغوص قدماك وكلما اقتربت أكثر للأنبوب سترى أسراب البعوض وتشم الروائح الغريبة التي تنبعث عبره. أما مصانع الإسفلت والطابوق والرمال وفضلات الخرسانة المسلحة فكلها جعلت محيط القرية أشبه بمحرقة، فالأحجار والخشب والطابوق وكل ما يخطر ببالك من المخلفات تجدها أكواماً وأكواماً على جوانب القرية وهذه المناظر أصبحت مألوفة لدى الجميع.

ختاماً نناشد كل الحقوقيين والاختصاصيين أن يسعوا لكشف الحقائق وفك الحصار المحكم على هذه القرية المظلومة التي تعاني منذ سنين طويلة فهي التي دفعت الثمن غالياً من أبنائها الذين رحلوا بأمراض السرطان والسل وغيرها من أمراض متنوعة وغريبة وإلى اليوم مازالت تعاني الأمرين تحت الحصار والإقامة الجبرية.

عمار حسين العباسي

العدد 762 - الأربعاء 06 أكتوبر 2004م الموافق 21 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً