يحكى أنه كانت هناك قرية تسمى السدير، وهي من ضواحي منطقة كنار في شمال شرق السودان التي حوّل البريطانيون جزءاً كبيراً منها في الماضي إلى مشروع ضخم أطلقوا عليه اسم «مشروع الجزيرة»، بقصد جعلها سلة غذاء لكل إفريقيا. هذه القرية التي كانت في ما مضى آهلة بالبشر ومزدانة بالأخضر، لم يبقَ منها سوى اسم بائس محفور في ذاكرة من تبقى من الجيل الماضي.
قبل سنين سكن الشيخ مولى وعائلته الكبيرة في السدير، حيث شكلت الزراعة أساس التواجد السكاني في هذه الأراضي الممتدة الأطراف. وكانت الأرض تعطي بسخاء، إذ تعددت الزراعات بفضل التوافر الدائم للمياه وبكميات كانت تبشر دائماً بجودة الغلال. ويتذكر العجوز مولى في حسرة خنقت صوته المرتجف: «في تلك الأيام، كان كل الناس يمارسون أنشطة مرتبطة بالأرض وإن تنوعت. كنا نعيش حياة هادئة ومتوازنة».
اليوم، تمر قوافل الجمال في جوار المكان، ويقف بعضها برهة أمام أطلال العمران المتآكل والأراضي الجرداء. فلا أثر للحياة، ولا حتى للطيور التي ترافق القوافل عادة لتقتات من الفتات. يبدو المكان غارقاً في حزن بعد فقدان بهاء الأخضر، الذي ساد ثم باد تاركاً السيطرة للرمل الذي استقر بفعل التصحر.
يقول الباحث عوض عثمان أبو سوار إن ازدياد عدد القطعان، من ماعز وغنم وإبل وبقر، ومدة بقائها أثناء عملية الرعي في الأراضي المحدودة ذاتها، هو أحد العوامل القوية المباشرة التي أدت إلى فقدان إنتاجية هذه المنطقة، وبقية المناطق التي تحتضر حالياً تحت عباءة التصحر الخانقة. ويضيف: «أما العامل الثاني فهو قطع الأشجار بغاية التزود بالحطب وصناعة التحف التقليدية وفحم البخور وبناء الأكواخ».
لم يكن اختيار البريطانيين عشوائياً لمنطقة «الجزيرة» القاحلة كي تكون سلة غذاء في عهدهم الاستعماري للسودان. فهي تقع في الجهة الشمالية للحوض الذي يربط النيلين الأبيض والأزرق، وتعتبر تضاريسها مثالية للسقي بفعل الجاذبية. في المقابل، تستغل الزراعة الطمي المتراكم بعد كل فيضان موسمي للواديين. كما تساهم الدلتا في تزويد الأراضي القريبة منها بالتربة ذات الخصوبة العالية. ومع هذا كله، لم تصمد المنطقة طويلاً أمام الرمال المتحركة في الشمال الغربي التي غطت معظم سواقي الري.
يرى مدير دراسات التصحر وتشجير الصحراء وعضو مكتب اليونسكو في السودان مختار أحمد مصطفى، أهمية تحسين ممارسات إدارة الموارد الطبيعية وحمايتها عبر تكثيف الغطاء الغابي في المناطق المعرضة لخطر التصحر. ويعتبر هذا الأمر حلاً لا يمكن تجاوزه.
نظراً إلى مساحة السودان البالغة 2,5 مليون كيلومتر مربع، وهي الأكبر في إفريقيا، فإنه البلد الأكثر تضرراً بظاهرة التصحر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ويعيش نحو 76 في المئة من سكانه في المناطق الجافة وشبه الجافة، على رغم الرطوبة المنبعثة من مجاري النيل الذي يقطع 900 كيلومتر داخل هذا البلد. لكن بعض الخبراء يلاحظون أن الإمكانات المتاحة والمتوافرة طبيعياً لمكافحة التصحر لم يتم توظيفها بشكل مدروس ونزيه تماشياً مع أهداف مخطط العمل الوطني لمكافحة التصحر(NAPODR).
ويصبح تعويض استعمال الحطب والفحم أمراً واجباً وضرورياً للحد من تفاقم خطر التصحر. وقد كشفت الاستنتاجات الأولية لتحقيق قام به فريق من طلاب جامعة الخرطوم أن الإفراط في استغلال الحطب هو السبب الرئيسي للتدهور الخطير في شمال منطقة الجزيرة. ولحل ذلك أوصوا بالتعجيل في إدخال مصادر الطاقة المتوافرة في السودان لسد حاجات السكان المتنامية. ومن هذه المصادر يمكن للسودان حالياً استغلال الغاز الطبيعي، في انتظار تطوير طاقة الشمس والرياح وحرارة جوف الأرض.
أما الحكومة السودانية، فلها رأيها الخاص، إذ تجد أن عملية مكافحة التصحر ليست قضية بلد دون غيره، مبرزة موقع السودان المنفتح على تسع جبهات، بينها ما هو متصحر وما هو مهدد بالتصحر مثل كينيا والصومال. هذا الواقع المفروض بثقله يستدعي التعاون والتنسيق، حتى لو كان الخطر على مستوى الحدود فقط، فالحدود النائية لبلد قد تكون أطراف مدن في بلد آخر. وتتعالى أصوات بعض المسؤولين السودانيين لتطالب الهيئات الدولية بتمويل بعض المشاريع ذات الصفة الإقليمية التشاركية، ودعم التبادل في المجال العلمي البحثي، خصوصاً ما يتعلق بالقارة الإفريقية. في انتظار خطوات عملية ميدانية عاجلة، يتحول السودان في صمت مرعب إلى امتدادات متصحرة تلفحها الحرارة الشديدة.
العدد 2808 - الجمعة 14 مايو 2010م الموافق 29 جمادى الأولى 1431هـ