لا نميل إلى السعي لتطويع قراءاتنا للتاريخ وفقاً لأحكام مسبقة، ولكن عند الحديث عن مشروع إصلاح سوق العمل - الذي يرعاه سمو ولي العهد، وتقدم مجلس التنمية الاقتصادية بمشروع بشأنه استناداً إلى دراسة أعدتها شركة ماكينزي - نصطدم بالكثير من الحقائق التي يصعب تجاوزها أو الالتفاف حولها وبالتالي لابد من الاستعانة بتجارب العالم لتسنيد ما نسعى للتوصل إليه.
ولا نريد هنا تكرار عرض الفرضيات والمقترحات الواردة بشأن مشروع إصلاح سوق العمل، إلا أن أحد جوانبه الإيجابية الأساسية أنه استعجل التعامل مع القضايا الأكثر إلحاحاً في المجتمع والتي تطال عشرات الآلاف من الأسر البحرينية وهي مشكلة البطالة. وكذلك سعى للاستفادة من التجارب العالمية ومنها تجربة سنغافورة التي لجأت إلى رفع كلفة الأيدي العاملة الأجنبية، ولكن في ظروف اقتصادية واجتماعية مختلفة تماماً عن البحرين.
عن هذه التجربة تحديداً، ولكي نترك الحكم عليها إلى فم أصحابها، وليس لتكييفات أقلامنا، يقول مساعد رئيس الوزراء السابق Goh Keg Swee إن تجربة سنغافورة بدأت منذ إصرار الأمهات على تدريس العلوم والرياضيات بشكل مكثف في المدارس الحكومية، وإيلاء سنغافورة اهتماماً كبيراً بموضوع التعليم. ففي العام 1968 لم تخرج الجامعات أي مهندس، أما الآن فهي تخرج نحو 20 ألف مهندس سنوياً، إلى جانب المئات من المعاهد الفنية والمهنية المتطورة.
ويضيف سوي: إذا كان هناك من له فضل علينا في تعريفنا بشئون الاقتصاد فهو ذلك الاقتصادي الهولندي الذي دفعنا في عقد الستينات إلى تعرف مبادئ الاقتصاد الدولي وإدخال الخطط الخمسية منذ ذلك الحين، علماً بأن ذلك الخبير ويدعى البرت ونزمس كان في الأصل خبيراً في اقتصادات صناعة الايسكريم.
بدأت سنغافورة بمجلس للتنمية الاقتصادي منذ الستينات والذي ساهم مباشرة في بناء اقتصاد حديث ومتطور عن طريق إقامة صناعات وطنية مملوكة للدولة تم إشغالها بأفضل المهارات والقدرات المتوافرة محلياً، التي تم تدريبها على العمل وفق معطيات السوق.
ويخلو مجلس التنمية حالياً هناك من أي توجيه أو سيطرة حكومية اللهم إلا ممثل واحد أو اثنان لها، أما البقية فهم من رجال الأعمال والخبراء ذوي الرؤية.
لذلك، بنيت قرارات التنمية منذ البداية على مدى جدواها للتنمية الاقتصادية، ورؤاها البعيدة المدى، وتميز رجالاتها بنظافة اليد والولاء لمصالح الوطن.
ومن أجل استقطاب رؤوس الأموال اللازمة للتنمية، أنشئت الوحدات المصرفية الخارجية العام 1968 لتشجيع استقطاب الاستثمارات إلى سنغافورة (وهي عكس تجربة الوحدات المصرفية الخارجية في البحرين التي اعتمدت في البداية على الأقل على تصدير رؤوس الأموال).
ونظراً إلى صغر ذلك البلد، فقد التزم المخططون بضرورة المشاركة في التجارة الدولية اعتماداً على مبدأ ضرورة الإنتاج للتصدير.
ولضمان نجاح تلك المهمة اهتم صناع القرار بضرورة توفير البيئة المناسبة لتحقيق النمو الاقتصادي وذلك من خلال توفير عدة عوامل أهمها وجود معدل تضخم متدن وتوفير عناصر الاستقرار والشفافية لأصحاب الأعمال المقيمين والأجانب على حد سواء وتحقيق معدلات عالية من التوفير وتهيئة مناخ ودي يتيح لها جذب الاستثمارات الخارجية، وقد كانت أولى بوادر النجاح لهذه الخطة دخول شركة تكساس انسترومنت في العام 1968 لتصنيع الـ Transistors.
أما إصلاحات سوق العمل كبرنامج وسياسات تناولت الحديث عن رفع كلفة العمالة الأجنبية فلم تبدأ إلا في نهاية الثمانينات، أي بعد نحو عشرين عاماً من بداية الإصلاح الاقتصادي والتعليمي.
وجاءت حزمة هذه الإصلاحات من زاوية محددة جداً وهي رغبة سنغافورة في دخول القرن الجديد عن طريق الولوج بصناعتها عبر الحلقات المتقدمة ذات التقنية العالية التي تسمح لها بالوصول إلى أسواق جديدة تغنيها عن الاعتماد على الصناعات التقليدية التي تعاني منافسة شديدة من قبل الدول ذات الأجور المنخفضة نسبياً كالصين وباقي دول جنوب شرق آسيا. لذلك، لجأت إلى رفع كلفة العمالة الأجنبية في الصناعات القائمة على الأجور المنخفضة لإجبارها على التحول نحو الصناعات ذات القيمة المضافة العالية.
ماذا نستنتج مما مضى فيما يخص تجربتنا في البحرين؟ ومرة أخرى نترك الجواب لراعي مشروع إصلاح سوق العمل، وليس لأقلامنا، ففي كلمته في ورشة العمل التي نظمت في سبتمبر/ أيلول الماضي، قال سمو ولي العهد: «إنني أتفهم شعور الكثير منكم بشأن الطريقة التي تمت بها معالجة بعض المشكلات الاقتصادية من قبل بعض الجهات، فغالباً ما اتسمت هذه الطريقة بالعشوائية والتضارب. وكثيراً ما أدى حل المشكلة إلى خلق المزيد من المشكلات. وهذا يرجع إلى تغيير التوجهات من دون استشارة أو عناية كافية.
ونتيجة لذلك غاب الوضوح وفقدت الثقة. وكثيراً أيضاً ما تم الاكتفاء بمعالجة أعراض المشكلات، تاركين جذورها من دون علاج. واليوم لا نرى في اقتصادنا البحريني سوى قطاعات قليلة تحقق النجاح المطلوب، والحقيقة هي أن الغالبية العظمى من أصحاب الأعمال والعاملين في القطاع الخاص غير راضين عن الأوضاع الحالية».
لذلك، يجب أن نبدأ من حيث انتهى التشخيص في الفقرة السابقة، وهي إعادة الثقة في الاقتصاد، وإعادة الثقة في الاقتصاد تتطلب الإصلاح السياسي والديمقراطي.
ثم رؤية اقتصادية للتنمية خلال السنوات الثلاثين المقبلة على الأقل، وفي ضوئها تتحدد رزمة الإصلاحات الاقتصادية، والتعليمية والتدريبية، كذلك سوق العمل. ولكن هذا كله لا يعني أن البطالة الراهنة ليست بحاجة إلى معالجات عاجلة ولو مؤقتة لحين توفير المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنقل الاقتصاد إلى مرحلة جديدة تجعل من المستقبل «مختلفاً» كما يطمح إليه سمو ولي العهد
العدد 796 - الثلثاء 09 نوفمبر 2004م الموافق 26 رمضان 1425هـ