لم أتوقع أن أرى هذا البؤس والفقر في حالة بوماهر في المحرق... عندما ذهبت لزيارة سكان المنطقة مع مدير الخدمات الطبية في جمعية التربية الإسلامية عبدالكريم بوعلاي... بعد أن طلبت منه الذهاب معه للتعرف على احتياجات الأهالي... كان يرافقنا في هذه الجولة التي شملت نحو 12 بيتاً رئيس لجنة الأهالي محمد الجراح ومعه مصور متبرع من اللجنة ومعنا زميلتي إيمان نجادات ووفد من صحيفة محلية.
فوجئت ببيوت يسكنها مواطنون أشبه بالقبور المظلمة... كيف يسمح المسئولون بوجود مثل هذا البؤس والفقر المدقع الذي يعيش في وسطه مواطنو المحرق الأصليون المخلصون الذين لا يريدون غير المحرق سكناً بعد أن امتدت جذورهم فيها أباً عن جد... تحسبهم أغنياء من التعفف على رغم كل ما يعانون حتى أن بعضهم كما قال لي عبدالكريم لا يجد طعاماً لبعض وجباته الرئيسية؟
تألمت وأنا أرى شاباً يافعاً نائماً بعد يوم مرهق من العمل في المطار يحصل منه على ستين ديناراً... ماذا سيفعل بهذا الراتب الضعيف...؟ كيف يسد احتياجاته واحتياجات والدته المصابة بورم في رحمها وأخويه المريضين أحدهما بالزائدة الدودية والثاني بكسر في رجليه... جالت عيني في المكان الذي سمي جزافاً بالغرفة... الجدران متشققة وقديمة قد رسمت الرطوبة من المواسير المتهالكة رسوماً متعرجة عليها... والغرفة لا يوجد بها أثاث... وإنما فراش قديم مفروش على الأرض... وملابس متناثرة لم تجد «دولاباً» يحتويها لبؤس الحال... والشاب نائم على وجهه...
وفي بيت آخر وجدت مأساة تجسد الفقر والحاجة... فالأخ المسن لا يحصل إلا على راتب... ويمنح منه 60 ديناراً، أختيه الأرملتين وثلاثة أطفال للأخت الأولى وأربعة أبناء للأخت الثانية... في بيت لا يزيد حجمه عن 15 قدماً مربعاً... لقد تراكمت ديون الكهرباء على هذه الأسرة المسكينة وهم مهددون بقطع الكهرباء عنهم.
وانتقلنا إلى بيت آخر... غرف تحيط بالحوش المفروش بسجاد قد تبرع به أحد أهل الخير... ولا يوجد سقف له... أشارت المرأة التي استقبلتنا بترحيب عندما سألتها أين ينام والدها، إلى الحوش المفتوح وقالت: «في هذا المكان».
سألتها: «وإذا سقط المطر...؟»
أجابت «ألُفُّ السجاد حتى لا يتضرر وينام أبي وأمي المقعدة معي ومع أولادي في الغرفة. ودخلت على والدها العجوز الأعمى وكان مستلقياً على الأرض يستمع إلى بعض الأغاني الصادرة من راديو قديم وراءه.
سألته: «هل يوجد لديك راتب تقاعدي؟»
أجاب: «لا يا ابنتي... كنت أعمل في قطاع خاص».
سألته: «ومن ينفق عليكم... من أين تشترون حاجاتكم؟»
أجاب وابتسامة على وجهه تعكس أصالة أهل المحرق الطيبين «أهل الخير في الفريق وبعض الجمعيات الخيرية ترسل إلينا مساعدة مادية كل ثلاثة شهور... ماذا نفعل يا ابنتي لا أحد منا قادر على أن يعمل».
غرفته خالية من الأثاث... وهو مستلق على الأرض... ويمضي يومه هكذا... تقوم ابنته بتبديل ملابسه مع والدتها لأنهما غير قادرين على المشي.
وخرجت إلى الخارج... الابنة توفي زوجها ولا يوجد عائل لديها لينفق على أبنائها إلا من أهل الخير... أين المسئولون من أمثال هؤلاء الفقراء...؟ لماذا لا تفكر الدولة في بناء بيوتهم... وهم أهل مدينة المحرق العريقة.
في بيت آخر... امتلأ بالذباب... نظراً إلى عدم وجود سقف للبيت... وجدت ما أهالني... زحاماً حولي من الآباء والأبناء وصل إلى 15 شخصاً في بيت لا تتعدى غرفه الثلاث... الأب متقاعد في الخامسة والسبعين من عمره وراتبه التقاعدي لا يزيد عن 180 ديناراً يعول خمس أسر... لديه ابنة أرملة توفي زوجها منذ ستة شهور وترك لها أربعة أبناء لا أحد يعولهم... ابنها الأكبر متزوج براتب ضعيف وعليه هو الآخر ديون خلقتها احتياجات أسرته... الأخ الآخر وزوجته وولداهما... وابن أخير مع ولديه... أما حال البيت فهو مزر إذ لا توجد به أية مواصفات لبيت آدمي كريم... الغرف في الأسفل والأعلى مبنية بطريقة بدائية متهالكة... حتى أن صاحب البيت الطيب هو الذي يبني لهم كلما احتاجوا إلى غرفة أخرى. وتتوالى المناظر المؤلمة للنفس مع فقراء مواطنين يعيشون في بيوت غير صحية وآيلة إلى السقوط... ولا أحد من المسئولين يهتم حتى بزيارتهم...؟ ما فائدة المجالس البلدية والمحافظات... إذا كانت لا تهتم بأمثال هؤلاء المواطنين...؟ الذين يعيشون تحت خط الفقر... ولا يجد بعضهم قوت يومه... فكيف بشراء ملابس لابنائه... كما تفتقر النساء القادرات الوعي بأهمية الدراسة أو الانشغال بعمل منتج للحصول على دخل للأسرة... من أين يحصلوا على الوعي وهم يعيشون بؤس أيامهم من دون أن يلتفت إليهم أحد من المسئولين بخلاف الجمعيات الخيرية التي تمدهم بالمساعدات الموسمية من أهل الخير...؟ ألا يحتاج أمثال هؤلاء الكبار في السن إلى ضمان صحي واجتماعي لكي يحصلوا على أدنى مستوى من الحياة الكريمة...؟ ومن أين لهم المال ليحصلوا على بيت في الإسكان إذا لم يكن لديهم دخل يستطيعون دفع أقساطه؟
ووصلنا إلى بيت رجل كبير في السن... تحسبه غنياً من التعفف والخجل عندما خرج إلينا سألته: «أين كنت تعمل؟»
أجاب: «في شركة طيران الخليج وخرجت منها قبل أن أحال إلى التقاعد...»
«ومن يعيش معك ويعولك؟»
ابني وراتبه ضعيف ولديه أسرة.
كلماته قليلة مليئة بالكبرياء... لكن بيته الذي يكاد يهوي ودَخْل ابنه الضئيل يصرخان بالبؤس والحرمان المادي.
أما الولدان اللذان ابتلي بهما أبوان... الأم مقعدة... والأب عاطل عن العمل... فيعيشان على المساعدات الخيرية من الشئون الاجتماعية والجمعيات... فإن قصتهما غريبة... أحدهما يعمل في الحرس الوطني بقوة دفاع البحرين متخاذل عن العمل لم يذهب منذ ثلاث سنوات وتم القبض عليه لإهماله... والثاني عاطل عن العمل هرب من المدرسة منذ الخامس ابتدائي بلامبالاة وكأن وضعه العائلي المزري أمر لا يهمه... يجرؤ بلا ضمير على ضرب والدته وكسر أواني البيت إذا لم تعطه كل يوم دينارين لينفقهما مع أصدقائه في الحي طوال الليل... ثم ينام بكسل طوال النهار... وكلا الأبوين خائفين من شراسته وخاضعين لابنيهما بسبب عجزهما... والبيت يسمى جزافاً بيتاً.
أم الحالة المؤلمة حقاً فهي لأسرة أرملة لديها خمس فتيات... وابن يعمل في الشرطة والديون تغطي راتبه... ولا يوجد لديها دخل إلا 55 ديناراً تحصل عليها من الشئون الاجتماعية كل شهرين... فكيف تعيش هذه العائلة...؟ لا أدري... لكنها لا تجد حتى طعاماً تأكله أحياناً... إلا إذا جاء به أحد من أهل الخير.
والبيوت كثيرة لم نتمكن من زيارة إلا 5 في المئة منها والشوارع متعرجة ومتداخلة والقذارة تمتلئ بها الطرقات... وكأن البلدية لم تعرف طريقها إليهم.
إن ما أثار إعجابي حقاً هو بعض الشباب الذي كون لجنة للاهتمام بشئون الأهالي يرأسها محمد الجراح... الذي كان برفقة مصور عضو في هذه اللجنة يتحدث بحماس عما يحاولون القيام به من خلال أهل الخير للتخفيف من بؤس حياة هؤلاء المواطنين البحرينيين الذين لا يريدون مكاناً لسكنهم إلا المحرق التي عاشوا فيها هم وآباؤهم وأجدادهم... ويتمنون أن ينقلهم المسئولون مؤقتاً لإعادة بناء قريتهم... مثلما فعلوا مع أهالي بعض القرى... ولا أظنهم أقل استحقاقاً من أهالي تلك القرى من تحقيق هذه الأمنية في أسرع وقت ممكن.
وكان عبدالكريم بوعلاي قد لفت انتباهي إلى المساحة الواقعة قرب مركز شرطة المحرق... متسائلاً عن سبب عدم استغلال المسئولين لها من أجل بناء عشرين عمارة سكنية يتم تخصيصها لهؤلاء السكان... ثم يتم إعادة تخطيط المنطقة وهدم المساكن القديمة وإعادة بنائها ليتحول إليها أهل القرية؟
كما أن أصحاب هذه البيوت العشوائية ابتلوا بقروض من بنك الإسكان لبنائها قبل أن تسقط... وهم اليوم معسرون ولا دخل لديهم لسداد هذه الديون الحكومية. فلماذا لا تقوم الدولة بإسقاطها عنهم؟
وماذا عن شباب المنطقة... هم بحاجة إلى إيجاد وظائف للعاطلين منهم ليتمكنوا من الإنفاق على أسرهم... ومنح من لديهم رواتب ثابتة جيدة. البيوت الإسكانية التي مرت عليهم سنوات وهم ينتظرونها وسط واقعهم المعيشي المأسوي... كما أن هناك أيتام وأرامل في هذه المنطقة لا تنطبق عليهم شروط جمعية «السنابل» ويعيشون حياة بائسة من الفقر... فماذا عنهم...؟ ألا يستحق أمثال هؤلاء كما قال لي عبدالكريم النظر في أحوالهم ومساعدتهم مادياً؟
وسؤال مهم أوجهه إلى نواب المجلس الوطني: هل نسيتم لماذا انتخبكم أهالي مناطقكم؟ أم أنكم أصبحتم تهتمون بالأمور السطحية، مثل: النقاب وإطالة اللحى وتفريق الجنسين في جامعة البحرين... على رغم أن الحياة كلها قائمة على الاختلاط... وعلى الطلبة أن يتعودوا على ذلك في جو من الاحترام بدل إهدار أموال الدولة على تطبيق التفريق بين الجنسين...؟ كما أن بعضكم أصبح يهتم بمستقبله وراتبه التقاعدي وإخراج جوازات دبلوماسية له ولأسرته وهو لم يحقق أياً من مطالب المواطنين.
أحياناً يصل بي الحال إلى التمني لو أن الحكومة وفرت الأموال الطائلة التي تنفقها على رواتب ومخصصات الأعضاء الثمانين وموظفيهم... لمجلسين عاجزين عن تحقيق أبسط المطالب الشعبية وإنفاقها على تطوير القرى البائسة في مملكة البحرين... أعتقد أن الكثيرين يوافقونني الرأي... أليس كذلك؟
العدد 816 - الإثنين 29 نوفمبر 2004م الموافق 16 شوال 1425هـ