قصة رئيس جمهورية عربية سابق مع الصحافية الشهيرة بالتلفزيون الأميركي (باربارا والترز) التي يسميها (بار باره) قال لها مرة: إن راتبك الشهري أضخم بكثير من راتبي! فردت عليه فوراً (ولكني لا أملك 36 استراحة!... وهنا سكت الرئيس وكتم غضبه لأن الصحافية الأميركية ذات العيون الزرق يهابها الرؤساء العرب.
ما يهمنا هنا في هذه القصة هي أن الصحافيين الأجانب والأميركان بالذات يتمتعون بحصانة دولية ولديهم الصلاحية في الخوض في الكثير من الموضوعات الحساسة المحلية والدولية من دون خطوط حمراء توقفهم، بل كل الخطوط وكل الأبواب مفتوحة لهم خصوصاً في الدول العربية من دون رقيب ولا حسيب، بعكس الصحافي العربي الذي يعيش يومياً حالاً نفسية بين الخوف تارة وبين الرجاء تارة أخرى.فتراه مشوش الأفكار في افتتاحيته اليومية يدور في موضوعات لا صلة لها بالواقع حول، مثلاً اليوم المفتوح للمدارس! والمرحلة الدراسية قاربت على الانتهاء، أو تراه يتناول حادثة قديمة أكل عليها الدهر وشرب ككميات الأمطار التي سقطت في العام الماضي! وهكذا في نهاية حياته يتحول إلى كاتب ممل تتهرب الناس عن شراء مجلته فيضطر إلى بيع صحيفته على أقاربه حتى لا تخلو الشوارع منها، أو يبيع قصصه بمبلغ لا يتعدى 100 فلس.
إن الصحافي أو رئيس التحرير في أوروبا ينظر إليه بعين الأهمية والاحترام وخصوصا في الأوساط الإعلامية الدولية والمحافل الصحافية وذلك لنظافة قلمه وقوّته وطريقة انتقائه للموضوعات ذات الصلة بالواقع وإلا ما الداعي لأن يطير رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير خصيصا إلى استراليا وذلك لمقابلة الثري الاسترالي المعروف (روبرت مردوخ) صاحب المؤسسات الصحافية (التايمز،الصنداي تايمز، الصن صنداي، صن نيوزورلد) قبل الانتخابات والتي أوصلته إلى سدة الحكم.
نحن نقول: لسنا في أوروبا ولا في أميركا حتى يصبح الصحافي بطلا أسطوريا تهابه المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. نحن نعيش في دول عربية لها مبادئها وتشريعاتها الثابتة ولكنا لا نرغب في أن تركز صحفنا في أعمدتها على أخبار الأرصاد الجوية وتنبؤات الطقس أو سرعة الرياح (30 - 50 عقدة) مثلا، ولا أن تتحول صحفنا إلى مجلات تحكي قصصا للأطفال مثل «مجلة ماجد» أو المدح والتبجيل لهذه الشخصية أو تلك في الوقت الذي تعيش المجتمعات العربية حالات الفقر والبؤس والحرمان! (خمسة أبناء في غرفة واحدة معهم شقيقاتهم) أو صور البيوت الآيلة للسقوط التي زادت في قرى البحرين! أو قصص الفساد التعليمي في الجامعات العربية، والأهم من ذلك حوادث أطباء بلا حدود ولا ضوابط شرعية التي كثرت قضاياهم وفاحت الفاحشة عندهم.
وكما قال غازي القصيبي: تحولت الصحافة العربية من المحيط إلى الخليج إلى أصوات أسيادها. إلا ما ندر مثل الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل بوصفه أنموذجا حينما ضاق به الرئيس المصري السابق ذرعا لمحاولته تجاوز الخطوط الحمراء والخروج عن الخط الرسمي ففوجئ القرّاء بسطر واحد ينهي خدماته في الأهرام.
كذلك لا نرغب في صحف ذات أقلام مائعة وبأعداد كثيرة وقد لا تكون المشكلة في كثرتها فقط ولكن في سطورها وما تحويه من إعلانات لمشاهير في هزّ البطون وأخبار الفنانات أو التمجيد والتقديس لطاغية العراق والإشادة بعائلته لسنوات طويلة، كالنمل التي ضرب لنا القرآن فيها أروع الأمثلة في خوفها الشديد من النبي سليمان إلى درجة أن ما دلها على موته إلا دابة الأرض التي تأكل منسأته.
وصدق المقبور الأعور وزير الدفاع الإسرائيلي (موشي ديان) حين قال: «إن العرب لا يقرؤون وبالتالي لا أخشاهم أبداً» وأنا أقولها بصراحة إننا أمة لا تقرأ بل تعبث وتلهث وراء التكنولوجيا المعلبة المستوردة من أميركا بدءاً بالالكترونيات وانتهاء بالديمقراطيات! وهنا يحضرني إصرار الشيخ رفسنجاني على تطويع نفسه إلى المبادئ لا إلى المنافع، حتى في أيام حكم الطاغية المقبور (الشاه) في أيام الاعتقالات وفي زنزانته الانفرادية وإصراره على حفظ القرآن الكريم.
كذلك لا نريد صحفاً كالسلاحف إذ تمر الحادثة وتموت من دون تغطية صحافية، ولا نريد صحفاً تسبق الحدث فتنشر معلومات مغالطة للواقع وتحول صحافييها إلى صحافيين مغضوب عليهم! نخسرهم ونخسر سطورهم في غمضة عين، ولا نرغب في صحف تدفع ثمن حريتها وقوة كلمتها مقابل صحف تقبض ثمن انبطاحها وتقديس متنفذيها. ومراعاة لدور الصحافي وأهميته وأمانته التي حملها وتكبد الصعاب من أجلها حباً في مهنته وفي الكلمة الصادقة الهادفة (السلطة الرابعة)... أليس من الأجدر أن يوجد من يحتفى به ويكرم كما أقدمت الجمعية العالمية للصحف على تكريم الصحافي السوداني (محجوب محمد صالح) الذي حاز حديثا على جائزة القلم الذهبي من الجمعية ومقرها باريس لدور محجوب ونضاله الطويل ضد الحكومات والأفكار العسكرية الفاسدة. فالبحرين يوجد فيها أكثر من صحافي يحمل قلماً ذهبياً نظيفاً ويحمل في طياته وافتتاحياته اليومية جميع ألوان الطيف، الدينية منها والسياسية المعتدلة بكل أمانه وصدق وحب لهذا البلد (مملكة البحرين).
مهدي خليل
العدد 832 - الأربعاء 15 ديسمبر 2004م الموافق 03 ذي القعدة 1425هـ