أود الاشارة أولا الى ان المقارنة لا تعني بالضرورة وجود اختلافات جوهرية بين الاعلام في البلدان المغاربية والمشرق العربي الاسلامي. .. بما في ذلك بالنسبة الى التعامل مع القضايا الانسانية... والملاحظة العامة هي التعامل الوجداني والعاطفي مع الملفات الانسانية من قبل كثير من الاعلاميين المغاربيين على غرار زملائهم في المشرق... ويبدو لي من خلال متابعتي للصحافة المكتوبة العربية تميز بعض الصحف المغاربية بدرجة أكبر من العاطفية عند تعاملها مع بعض القضايا الانسانية وضحايا الحروب في أفغانستان وفلسطين والعراق والبوسنة والشيشان... مع خلط ساذج احيانا وبدائي بين الزعماء السياسيين الفلسطينيين والعراقيين والرموز الثقافية التاريخية العربية والاسلامية التي تحمل قداسة... بل ان بعض الصحف مثل "الشروق" اليومية التونسية لاتزال تختزل معاناة الشعب العراقي وتتحدث عن انتصار قوات صدام حسين في حرب 1991 وكذلك في حرب .,,2003 مع الحديث عن خيانة بعض رفاق صدام لزعيمهم في اللحظات الأخيرة!
هناك بعض الملاحظات والاستنتاجات التي يمكن ان تكون منطلقا للنقاش العام.
أولا: أخطر من الخلل الموجود حاليا عند تناول القضايا الانسانية في المشرق والمغرب ما يلاحظ من صمت مريب عن المعاناة الانسانية لضحايا الحروب وعن تحركات الصليب الاحمر وبقية المنظمات الانسانية والحقوقية الدولية... لاسيما بالنسبة إلى ضحايا الحرب الجزائرية المغربية في الصحراء الغربية والتي يعود تاريخ احتجاز بعض ضحاياها في ظروف قاسية جدا الى العام ،1975 أي ما قبل 30 عاما.
ووراء هذا الصمت أو التعتيم الاعلامي المنظم حرص مشترك "أو وفاق تحت الطاولة" من قبل السلطات المغربية والجزائرية، قد يفسره الحرص على عدم افتضاح حجم خسائرها البشرية والمادية من حرب الاستنزاف الصحراوية.
ولم يبرز ملف الاسرى الصحراويين والمغاربة من جديد في وسائل الاعلام المغاربية الا بعد نجاح جهود الصليب الأحمر والوساطات الاممية والحكومية في اطلاق سراح عدد من الأسرى والمحتجزين... ثم برز في اطار الحملات الاعلامية المتبادلة بين الرباط والجزائر لأسباب داخلية حينا واقليمية حينا آخر... وكانت الوسيلة احيانا ابراز وسائل الاعلام في الجزائر والمغرب الملف الانساني وتمادي السلطات المغربية في احتجاز الاسرى الصحراويين أو تمادي سلطات البوليساريو المدعومة اساسا من قبل الجزائر في احتجاز اسرى مغاربة في المناطق الصحراوية غير الخاضعة للمغرب.
الملاحظة الثاني: ان حيادية بعض الانظمة في بعض النزاعات مثل حيادية تونس في الصراع الجزائري المغربي على الصحراء دفعت الصحافة التونسية الرسمية وشبه الرسمية نحو غض الطرف بدورها عن الجوانب الانسانية في نزاع الصحراء أو ضحايا الحرب والاسرى... على رغم مزايا هذه الاستقلالية... بل ان استقلالية تونس في النزاع هي التي دفعت الصليب الاحمر وعددا من المنظمات الاقليمية والاممية نحو اختيار تونس مقرا اقليميا لها.
ان معضلة تجاهل الاعلام العربي عموما بما في ذلك الاعلام المغاربي "والفضائيات الجماهيرية الخليجية الجديدة، الجزيرة، العربية، الاخبارية وأبوظبي... الخ" للقضايا الانسانية وملفات المساجين السياسيين وسجناء الرأي وغير ذلك من الملفات التي يعنى بها الصليب الاحمر والمنظمات الدولية... لأن غالبية تلك الوسائل تابعة للانظمة "وفي هذا تستوي غالبية وسائل الاعلام المغاربية والمشرقية".
وبالنسبة الى اعلام القطاع الخاص والاهلي فإنه في كثير من الحالات يخضع بدوره بدرجات متفاوتة مباشرة أو بطرق ملتوية إلى الحكومات ومراكز الضغط الاقتصادي المهيمنة على الحياة السياسية والمالية وعلى اسواق الاعلانات والاشهار... وهو ما يمنعه من اعطاء أولوية للملفات الانسانية وقضايا ضحايا الحروب بطريقة محايدة.
في المقابل فإن الاعلام المستقل عن الحكومات ضعيف عربيا ومغاربيا... على رغم هامش الحرية النسبي الذي تتميز به بعض الصحف المغاربية حاليا.
ثم ان معضلة التمويل تؤثر على استقلالية وسائل الاعلام في تناول دور المنظمات الانسانية ومنها الصليب الاحمر، الى جانب تمويل الحكومات وكبرى الشركات الاقتصادية لوسائل الاعلام.
وأريد التوقف عند ظاهرة موجودة في احدى الدول العربية المغاربية وهي ظاهرة الصحيفة التي يدعمها ماليا وسياسيا احد كبار المسئولين العسكريين الحاليين أو المتقاعدين وهو دعم يؤثر احيانا على تغطية القضايا الانسانية ومنها ضحايا الحروب والنزاعات لاسيما نزاع الصحراء الغربية.
إن تناول القضايا الانسانية من خلال الانحياز الى أحد أطراف النزاع، مثل: تغطية وسائل الاعلام المغربية والجزائرية الى أحد طرفي النزاع الصحراوي... عبر غض الطرف عن معاناة الاسرى الصحراويين او عن معضلة الاسرى المغاربة والضحايا الجزائريين والمغاربة العسكريين والمدنيين.
ومن أسباب تمييع القضايا الانسانية وتهميشها وقلة متابعتها على رغم عدم مسها للخطوط الحمراء للانظمة المغاربية والعربية، إعلام الاثارة والتهييج والتحريض... الاعلام الذي يخلط بين التغطية الصحافية والتعريف بملفات ضحايا الحروب والازمات من جهة وإثارة المشاعر والتضخيم والتهويل من جهة أخرى، لاسباب تجارية أو لكسب جمهور اكبر... وهنا يمكن ان أشير الى أمثلة عدة منها بعض التلفزات الفضائية العربية عموما والخليجية خصوصا لاسيما قناة "المنار" التابعة إلى حزب الله والقنوات الممولة من أنظمة عربية مثل "الجزيرة" و"أبوظبي" أو قناتي "العالم" و"سحر" الايرانيتين... وبعض الصحف المكتوبة في شمال افريقيا مثل "الشروق" و"الصريح" و"لوكوتيديان" في تونس.
ان الاعلام الجماهيري التلفزيوني والاذاعي قليل التفاعل مع دور المنظمات الانسانية الاممية والعمل الانساني للمنظمات غير الحكومية والاعلام المكتوب الذي ينشر بلاغات الصليب الأحمر والمنظمات الانسانية وينشر أخبارها وما تتعرض له من ضغوط.
وخطورة التوظيف السياسي الظرفي والانتقائي "والمفضوح غالبا" عند تعريف كثير من وسائل الاعلام المغاربية والعربية عموما بالعمل الانساني للصليب الاحمر وبضحايا المنظمة وغيرها من المنظمات الانسانية، والامثلة: التشهير بالقصف الاميركي لمخازن الصليب الاحمر في أفغانستان ومضايقة السلطات الاسرائيلية لممثلي الصليب الاحمر في فلسطين المحتلة، مقابل غض الطرف عن مطالبة الصليب الاحمر ومثيلاتها للحكومات العربية والمغاربية بزيارة السجون والاطلاع على احترام وزارات الداخلية والعدل العربية للقوانين والمقاييس الدولية عند احتجاز السجناء السياسيين والمعتقلين في قضايا الرأي والقضايا ذات الصبغة السياسية.
ان المتورطين في إعلام الدعاية والانتقاء والتوظيف ليسوا فقط قادة الاحتلال الاسرائيلي ومسئولي الاحتلال الاميركي في العراق والقادة الأميركيين في أفغانستان بل كذلك من قبل القنوات الموالية لبعض الاطراف المعارضة عربيا وعن رموز من القيادة الفلسطينية الذين يغضون الطرف عن اخطائهم وخروقاتهم للقانون الانساني والاعلان العالمي لحقوق الانسان بصرف النظر عن تورط الجانب الاقوى حاليا أي "إسرائيل" في الانتهاكات الأخطر.
يمكن ان نصنف المنظمات التي تقوم بتحركات سياسية وعسكرية ضد الاحتلال حركات وطنية او حركات مقاومة، لكن لابد من تعريف الحركات والمجموعات الموالية للنظام العراقي السابق او للميليشيات السياسية والدينية التي تورطت في اعمال ارهابية ومنها ضرب الصليب الاحمر والوفود الاممية والصحافيين بالارهابيين من باب تسمية القط باسمه.
ثم انه لا يوجد فقط اللون الابيض واللون الاسود في الحياة، بل كذلك عشرات الالوان بينهما. اي ان لكل وسائل الاعلام العربية والمغاربية ايجابياتها على رغم نقائصها... ويمكن الاستفادة من التعاون معها جميعا من قبل الصليب الاحمر "والمنظمات الانسانية" مهما كان هذا التعاون محدودا. * كاتب تونسي يعمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، والموضوع ورقة مقدمة إلى ورشة عمل «إعلام الشرق الأوسط وتديات العمل الإنساني» في بيروت
العدد 851 - الإثنين 03 يناير 2005م الموافق 22 ذي القعدة 1425هـ