رسم الكاريكاتير يعكس الموقف: وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر الذي ينتمي لـ "حزب الخضر" داخل على لجنة التحقيق البرلمانية المكلفة النظر بفضيحة التلاعب بتأشيرات الدخول لألمانيا والدول الموقعة على اتفاق "شنجن" وهو يرتدي زي الرجل الخارق سوبرمان. ما يرمز إليه الرسم هو ما يعرف به فيشر من ولع في الهجوم الكلامي بحيث لا يترك الساحة قبل أن يهين خصومه. هكذا كان يفعل مع المستشار السابق هيلموت كول ووزير الخارجية السابق كلاوس كينكل حين كان في صف المعارضة وهكذا فعل حين عبر لوزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في فبراير/ شباط العام 2003 عن عدم اقتناعه بما وصفته أميركا بأدلة ضد العراق حين اتهمته بامتلاك أسلحة الدمار. غير أن فيشر أصبح مثل الأسد الجريح بعد أن تفاعلت فضيحة التلاعب بالتأشيرات واتهامه بفقدان السيطرة على وزارته.
ووفقا لأقوال المعلقين فإن الجولة الأولى حسمت لصالح فيشر لأن لجنة التحقيق لم تنجح في جلسة الاستجواب التي نقلها التلفزيون الألماني مباشرة على الهواء، ولولا أنه قرر أن يتطوع بمحض إرادته في تحميل نفسه مسئولية المخالفات من دون أن يخشى أن يكون لهذا الاعتراف نتائج سلبية على منصبه، لكانت لجنة التحقيق خرجت خالية الوفاض بعد استجواب أبرز الشهود.
في الغضون، لم يعد فيشر الولد المدلل عند الناخبين الألمان الذين انبهروا بسيرته الشخصية حين نجح الاشتراكيون والخضر في سبتمبر/ أيلول العام 1998 بإنهاء العهد الطويل لحكومة يمين الوسط التي كان يتزعمها هيلموت وتسلم سائق التاكسي السابق منصب نائب المستشار ووزير الخارجية. ظل فيشر يتصدر قائمة السياسيين الأكثر شعبية حتى ظهور فضيحة التلاعب بالتأشيرات وترك المركز الأول للرئيس هورست كولر. في هذه القضية تسعى المعارضة إلى استغلالها في الحملة الانتخابية التي تسبق موعد الانتخابات العامة في سبتمبر العام .2006 أمام لجنة التحقيق كشف فيشر أنه ليس من السهل أن يطاح به، والسبب أنه إذا رحل سيتبعه المستشار الاشتراكي غيرهارد شرودر الذي قال مرة: كلانا جئنا معا وكلانا نذهب معا. يعرف فيشر أن المستشار لن يتخلى عنه وأنه يسانده في هذه الورطة ليس لأنه يتمسك به شخصيا بل لأن فيشر الذي هو منذ وقت الزعيم غير الرسمي لـ "حزب الخضر"، لو سقط سيعجل في سقوط حكومة الائتلاف الاشتراكي الأخضر.
وكان شرودر أقنع فيشر قبل عامين بالعدول عن فكرة الذهاب إلى بروكسل والانضمام للمفوضية الأوروبية. غير أن فضيحة التأشيرات باتت عقبة جديدة أمام حلم الاشتراكيين والخضر بالاستمرار بالحكم، وخصوصا أن جميع المؤشرات توضح أن "الاتحاد المسيحي المعارض" وشريكه "الحزب الليبرالي" سيستعيدان السلطة في العام المقبل أما استمرار حكومة شرودر/ فيشر في عملها بعد ذلك الوقت فإنه حاليا هو أقرب ليكون معجزة. غير أن شرودر سيكتشف عاجلا أم آجلا أن فيشر أصبح عبئا ثقيلا على حكومته. ونجا زعيم الخضر أكثر من مرة من السقوط. كانت البداية حين تم الكشف عن ماضيه كمشاغب في مدينة فرانكفورت ثم تعرض لانتقادات حادة داخل حزب الخضر حين دعا إلى تأييد قرار الحكومة بالمشاركة في الحرب ضد يوغسلافيا السابقة ونجح بالنهاية بكسب تأييد حزبه بعد أن قال إنه يريد منع وقوع مجازر عرقية جديدة. في الغضون يمسك شرودر بأبرز قضايا السياسة الخارجية بدلا من فيشر. ويدعو شرودر إلى إنهاء حظر بيع السلاح الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على الصين في العام ،1989 كما يعتني شرودر كثيرا بتعميق علاقات بلاده مع روسيا ويصمت على حرب الشيشان كي لا يزعج صديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أما فيشر فإنه مضطر هذه الأيام للدفاع عن نفسه، بينما فضيحة التأشيرات تتفاعل على الصعيدين السياسي والقانوني. بالنسبة إلى المعارضة فإن مطلبها واضح وهو أن يستقيل فيشر من منصبه غير أن الأسد الجريح يشعر أنه يملك فرصة بالنفاذ بجلده. على الصعيد القانوني ينشط وكلاء النيابة بالتحقيق ضد أشخاص متهمين بتهريب الأفراد، إذ هناك 900 قضية مرفوعة يستفاد منها أن المتهمين أساءوا استخدام نظام تسهيل منح التأشيرات في أوكرانيا وخصوصا الأمر الذي سهل نشاطاتهم بتهريب الأفراد إلى مختلف دول الاتحاد الأوروبي. المثير في الوضع القانوني للقضية أن المدعي العام في مدينة كولون يحقق ضد شخص مجهول بتهمة مساعدة عصابات تهريب الأفراد. هذا المجهول من وجهة نظر المعارضة هو فيشر.
ما كشفته المعلومات أن البعثات الألمانية في الخارج خصوصا في كييف حذرت من خطورة العمل بنظام التأشيرات الذي أمر به فيشر غير أن المتهم الرئيسي في الفضيحة له وجهة نظر أخرى فقد أبلغ لجنة التحقيق أن القنصليات وجدت صعوبة في التأقلم مع النظام الجديد وأن هدفه منذ البداية كان تسهيل السفر كي ينعم الناس بالحرية في أوروبا، إذ من دون هذا النظام لم تحصل الثورة البرتقالية في أوكرانيا. تم إصدار ما يربو عن 5 ملايين تأشيرة دخول لألمانيا ودول شنجن منذ العام 1999 في دول أوروبا الشرقية فقط. كثير من الذين دخلوا أراضي ألمانيا ودول شنجن بتأشيرات سياحية لم يأتوا لغرض السياحة. جاء في تقارير عدد من السفارات أن الوافدين على ألمانيا يسعون إلى العمل بصورة غير مشروعة، إذ ينتهي بالرجال في ورشات البناء وتنتهي النساء في دور البغاء. أبلغ فيشر اللجنة أنه لم يطلع على تقارير سفاراته، بينما قال سفراء إنهم بعثوا بتقاريرهم مباشرة إلى مكتبه. وحين نفى الوزير سبقه نائب مدير قسم سياسة التأشيرات بوزارة الخارجية فولفغانغ مانيج وقال إن الهدف كان تعديل سياسة الحكومة تجاه الأجانب. كما كشف أن فيشر شارك على الأقل في اجتماع بالوزارة تم التطرق فيه لموضوع تسهيل منح التأشيرات لكن ليس هناك محضر وهذا غير عادي. كما حاول فيشر التقليل من أهمية الخلاف بينه وبين زميله وزير الداخلية أوتو شيلي الذي حذره من استمرار العمل بنظام التأشيرات.
في الوقت نفسه، وردت شكاوى من البعثات الألمانية في بكين وتيرانا وبريشتينا بشأن زيادة كبيرة في عدد طالبي الحصول على تأشيرات دخول لألمانيا ودول شنجن وصعوبة التدقيق بالمعلومات الشخصية. بينما يستبعد المراقبون أن يتخلى فيشر عن منصبه طواعية، وخصوصا أن الكاميرا سجلت اعترافه بارتكاب خطأ وإعلانه تحمل مسئولية هذا الخطأ فإن شرودر لن يتخلى عن شريكه.
على الأقل في الوقت الحالي على رغم انتشار شعور أن فضيحة التأشيرات قد تكلف الاشتراكيين والخضر خسارة الانتخابات البرلمانية المقبلة في ولاية شمال الراين وستفاليا التي هي أكبر ولاية ألمانية وتعتبر منذ عقود أبرز حصن للاشتراكيين الألمان. يقول المحرر في صحيفة "فرانكفورتر ألجماينه" جونتر باناس أن فيشر حصل على منصب وزير الخارجية لأنه كان مناسبا لهذا المنصب من بين الأسماء المرشحة لخلافة فيشر في منصبه شيلي الذي له اتصالات دولية ويتمتع برضا واشنطن لأنه يتعاون معها في تعقب الإسلاميين المتطرفين
العدد 966 - الخميس 28 أبريل 2005م الموافق 19 ربيع الاول 1426هـ