كانت الحرب الباردة في أوجها حين زعم الغرب أن داعية حقوق الإنسان أناطولي شارانسكي يعاني الاضطهاد في الاتحاد السوفياتي ولذلك ضغط من أجل أن يجري الإفراج عن اليهودي الروسي شارانسكي الذي اعتقل بتهمة التجسس للغرب. في نهاية عملية كر وفر بين الشرق والغرب حصل شارانسكي على الحرية في عملية مثيرة لتبادل العملاء والجواسيس تمت بين طرفي الحرب الباردة في عقد الثمانينات على جسر جلينيكر الذي يفصل بين مدينة بوتسدام بألمانيا الشرقية السابقة ومدينة برلين الغربية. غير أن إقامة شارانسكي لم تدم أكثر من أيام قليلة في ألمانيا الغربية إذ توجه بعد ذلك إلى "إسرائيل" ليسهم في تحقيق أكبر هجرة لليهود الروس.
اندمج شارانسكي بالسياسة الإسرائيلية وأضفى عليها العنصر الروسي المهم داخل المجتمع الإسرائيلي وهو العنصر الذي شجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على زيارة "إسرائيل". لم يترك الإسرائيليون فرصة منذ عقد الثمانينات خصوصا للإشارة إلى حلمهم بأن تهاجر أعداد اليهود الروس إلى "إسرائيل" التي كانت تسعى إلى توطينهم في مستوطنات متقدمة مواجهة للمدن والقرى الفلسطينية كحزام أمني.
حين حصل رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي ارييل شارون على منصبه كشف أن من أبرز واجبات الدولة العبرية فتح أبواب "إسرائيل" أمام أكبر عدد ممكن من اليهود من العالم. وتخطط "إسرائيل" لاستقبال نحو مليون مهاجر جديد بحلول العام .2020 إذ ليس هناك دولة في العالم تعيش في قلق دائم وتخشى تراجعا كبيرا في عدد سكانها مثل "إسرائيل" التي أصيبت بصدمة حين بلغها - نتيجة دراسة جديدة عن الكثافة السكانية في فلسطين - أنه بحلول العام 2015 سيزيد عدد السكان الفلسطينيين عن عدد اليهود فيها. لكن "إسرائيل" ليست جذابة لجميع يهود العالم الذين نصبت نفسها ولية على أمورهم، إذ إنه طيلة العقود السابقة لم تصلها أعداد كبيرة وخصوصا من روسيا وسائر الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي. ففي العام 2004 حصل عشرة آلاف يهودي روسي على الجنسية الإسرائيلية مقابل 33 ألفا منهم في العام .2001 ويشير المراقبون إلى أن الصراع مع الفلسطينيين أبرز الأسباب التي لا تشجع اليهود الروس على الهجرة. واعترف المتحدث باسم الوكالة اليهودية لفلسطين مايكل جنكيلوفيتز بأن هذه الأرقام لا تبعث على السرور. ويعود هذا التراجع لاستمرار انتفاضة الفلسطينيين وكذلك تراجع عدد اليهود الروس داخل روسيا نفسها الذين يفضلون الهجرة إلى ألمانيا وأميركا.
وأعرب جنكيلوفيتز عن قلق الوكالة حيال التسهيلات التي تضعها ألمانيا أمام اليهود الروس بفعل ماضيها وتسمح لهم بالإقامة الدائمة في أراضيها. في الغضون تصل أعداد كبيرة من اليهود الروس إلى ألمانيا بدلا من متابعة السفر إلى "إسرائيل". لذلك ترحب الوكالة بخطة وزير الداخلية الألماني أوتو شيلي بتعقيد هجرة اليهود لألمانيا قدر المستطاع. وكانت الوكالة اليهودية لفلسطين تأسست في العام 1923 قبل بدء عهد الانتداب البريطاني في فلسطين وأخذت على عاتقها منذ البداية تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين. وبعد إعلان الدولة العبرية العام 1948 أصبح اسمها الوكالة اليهودية لـ "إسرائيل" ومركزها القدس المحتلة.
في غضون ذلك أصبحت "إسرائيل" مأوى لأكثر الروس ثراء مثل ليونيد نيوزلاين الذي نقل ثروة مالية كبيرة إليها بعد فراره من روسيا التي ترغب في محاكمته. ويأمل شارانسكي بأن تنجح "إسرائيل" بالإفراج عن صديق حميم لنيوزلاين هو الرئيس السابق لشركة النفط الروسية "Yukos" ميخائيل خضر كوفسكي المتهم باختلاس أموال طائلة ويسعى الغرب إلى الإفراج عنه. وهناك احتمال كبير أن يهاجر خضر كوفسكي إلى "إسرائيل".
أصبحت اللغة الروسية اللغة الثالثة في "إسرائيل" بعد العبرية والعربية. ومن اصل 6,3 ملايين إسرائيلي ينحدر أكثر من مليون من الاتحاد السوفياتي، لكنهم لم نجحوا جميعا في الحصول على منصب سياسي وحياة راغدة مثلما حصل شارانسكي الذي استبدل اسمه بعد لجوئه لـ "إسرائيل" باسم ناتان شارانسكي. وقد وجدوا كم الحياة في "إسرائيل" صعبة في ظل استمرار النزاع مع الفلسطينيين وتردي الوضع الاقتصادي وخصوصا أن الانتفاضة الثانية ساعدت في استفحال أزمة البطالة بين الإسرائيليين، لكنهم استعانوا بجواز السفر الإسرائيلي كتذكرة دخول إلى البلدان الغربية.
لذلك فإنهم يهاجرون من أرض الميعاد إلى بلدان مثل ألمانيا وأميركا بعد أن انتهى الأمر بأكاديميين روس للعمل في ورشات البناء وفي محلات السوبر ماركت، أما أبرز العازفين على الكمان فإنهم يمضون الوقت في العزف في الشوارع لكسب قوتهم اليومي. لهذا السبب لم يكن غريبا أن يعود 600 ألف يهودي روسي إلى بلدهم في الفترة بين العام 2002 والعام 2003 إذ يعملون في تنشيط الحياة اليهودية في بلدهم من خلال إنشاء محلات لحكم الكوشر والمكتبات والمسارح.
وقال الحاخام الروسي الأعلى بيرل لازار: يشعر اليهود الروس براحة أكثر في بلدهم بعد أن وجدوا صعوبة في التأقلم داخل المجتمع الإسرائيلي. اللغة الروسية منتشرة أيضا بين الفلسطينيين. هناك أجيال من الأطباء والمهندسين الذين درسوا في جامعات روسية بينهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي أعد في موسكو أطروحة عن الصهيونية. كما كان التقارب السياسي بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والقيادات الروسية قويا وزار عرفات موسكو أكثر مما زار بعض الدول العربية. لو نظر المرء عبر المنظار الروسي لتبين له أن روسيا تملك فرصة كبيرة في أن تلعب دور الوسيط النزيه في النزاع بين الفلسطينيين و"إسرائيل". غير أن فشل ونجاح وساطة روسية لا يعتمد على بوتين بقدر ما يعتمد على الرئيس الأميركي جورج بوش وكذلك شارون. حاليا لا يؤيد بوش وشارون مثل هذه الوساطة التي يعتبرها الأوروبيون مبكرة لأن شروط "خريطة الطريق" التي شاركت روسيا في وضعها لم تتحقق بعد.
وهدف بوتين واضح: من ينجح في أن يضع موطئ قدم في الشرق الأوسط ويزج بأنفه بين أطراف النزاع يحصل على اهتمام دولي. ويشير المراقبون إلى نوايا روسيا في بناء نفوذها السياسي في المنطقة لتستعيد صفتها السابقة كقوة عظمى. من العوائق أيضا وجود خلاف واضح بين العرب. وموسكو بسبب استمرار نزاع الشيشان. كما أن دول الخليج العربية لم تكن يوما حليفا لروسيا وساءت علاقات الطرفين وخصوصا بعد اجتياح القوات الروسية أراضي أفغانستان في العام .1979
صلة الربط المتينة لروسيا عسكريا قائمة مع سورية وإيران، وكلا البلدين على قائمة الدول التي تصفها واشنطن بالشريرة. وقال بوتين إنه تم فعل الكثير كي تحسنت العلاقات بين موسكو و"تل أبيب" في السنوات القليلة الماضية. وبعد عملية مدرسة بيسلان نشأ تعاون عسكري مكثف بين روسيا و"إسرائيل"، ويعمل خبراء عسكريون من "إسرائيل" على تدريب وحدات عسكرية روسية وخصوصا لمواجهة عمليات مماثلة لما حصل في بيسلان قبله في أحد مسارح موسكو. غير أن الروس لا يشيروا لهذا التعاون كي لا يثيروا حساسية الأصدقاء العرب
العدد 970 - الإثنين 02 مايو 2005م الموافق 23 ربيع الاول 1426هـ