هناك حاجة واضحة الى ردم الثغرة بين العلم والسياسة العامة في المنطقة العربية. والسياسة البيئية والمناخية ليست استثناء. ففي منطقة لها تاريخ طويل من الأنظمة السياسية الأوتوقراطية وضعف تمويل الأبحاث والتطوير، بات المجتمع العلمي يفتقر الى الاستقلالية والموارد اللازمة للمشاركة في رسم السياسة العامة.
لا يمكن التقليل من أهمية دور العلم في دورة السياسة. ويمكن تصنيف العلاقة بين العلم والسياسة البيئية بطريقتين: السياسة الموجهة علمياً، والعلم الموجه سياسياً. ان السياسات الموجهة علمياً ـ التي يركز عليها هذا المقال ـ هي المطلوبة للاستجابة لمسائل بيئية.
مع نهاية هذا القرن، من المتوقع أن تصبح المنطقة العربية أكثر حراً وجفافاً الى حد لا يستهان به. ويتوقع التقرير التقييمي الرابع للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ زيادة في معدل الحرارة حتى درجتين مئويتين بحلول منتصف القرن، وحتى أربع درجات بحلول سنة 2100. وتتوقع نماذج الهيئة أيضاً أن تعاني المنطقة العربية خسائر أكبر في المتساقطات بالمقارنة مع مناطق أخرى، إذ يقدَّر ان تنخفض كمية الأمطار بنسبة 20 الى 30 في المئة مع حلول منتصف القرن. ومع تضافر أثر ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض المتساقطات، ستزداد حالات الطقس المتطرفة تكراراً واشتداداً.
في شمال إفريقيا تحديداً، سوف تصبح موجات الجفاف أكثر تكراراً وشدة، مواصلة اتجاهاتها الأخيرة. وبعدما كان حدث خطير واحد يقع كل عقد في بداية هذا القرن، بتنا نشهد خمسة أو ستة أحداث. واضافة الى ذلك، تقع مراكز رئيسية للنشاط الاقتصادي والتجمعات السكانية في المنطقة العربية على الخطوط الساحلية، لذلك يشكل ارتفاع مستويات البحار خطراً رئيسياً. فقد أظهرت محاكاة أجراها العام 2009 مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأميركية، من أجل تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية «أثر تغير المناخ على البلدان العربية»، ان ارتفاع مستويات البحار متراً واحداً سيكون له أثر مباشر على نحو 41,500 كيلومتراً مربعاً من السواحل العربية. وستكون التأثيرات الأكثر خطورة في مصر وتونس والمغرب والجزائر والكويت وقطر والبحرين والامارات.
ويشير تقرير التنمية الانسانية العالمية 2007-2008، ومؤشرات التنمية العالمية 2007، الى أن حصة المنطقة العربية من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية لم تتجاوز 4,7 في المئة، أي اقل من حصة جميع المناطق الأخرى باستثناء البلدان الواقعة جنوب الصحراء الإفريقية. لكنها من المناطق الأكثر عرضة لتصبح بشكل حاد ضحية جدية لتغير المناخ.
الثغرة الواسعة بين البلدان العربية من حيث مستويات التنمية الانسانية جعلت صياغة سياسة مناخية عربية متناغمة أمراً صعباً. لكن مجلس الوزراء العرب المسئولين عن شئون البيئة (كامري) أقر العام 2007 إعلاناً سياسياً يحدد العناصر الرئيسية لموقف عربي في مفاوضات المناخ.
اعترف الاعلان بأن المنطقة العربية، الواقعة ضمن نطاق جاف وقاحل، ستكون من المناطق الأكثر تعرضاً للتأثيرات المحتملة لتغير المناخ. وهذه تشمل خطراً اكبر يهدد المناطق الساحلية، وازدياد شدة الجفاف والتصحر، وشح الموارد المائية، وتفشي الأوبئة والأمراض. ويشدد الاعلان على الحاجة الى ادخال تغير المناخ في سياسات واستراتيجيات وبرامج التنمية في البلدان العربية. لكنه يدعو أيضاً الى النظر في مصالح البلدان العربية المصدرة للنفط، التي قد تتأثر اقتصاداتها بالجهود الدولية المبذولة لتخفيف تأثيرات تغير المناخ. ويشدد على أن تؤدي الحكومات الدور الرئيسي في التصدي لتحديات تغير المناخ، لكن بالتعاون مع جميع الأطراف المعنية، بما فيها المجتمع العلمي.
ان ضعف القدرة الحالية للعلم والتكنولوجيا في المنطقة العربية يمكن أن يعزى الى عوامل رئيسية متعددة، أحدها عدم اهتمام الحكومات عموماً بالعلم. فهي تخصص أموالاً زهيدة للتربية والعلوم، مقارنة بالأموال التي تلحظها لمسائل أخرى، مثل الانفاق العسكري. وهناك عامل حاسم آخر هو تدهور نظم التعليم. هذه العوامل، اضافة الى عدم كفاية البنية التحتية وأنظمة الدعم، تخلق بيئة لا تساعد على الأبحاث والتطوير.
ولا تتعدى المنشورات العلمية الصادرة في العالم العربي 1,1 في المئة من الانتاج العالمي. وتنفق مصر والأردن والكويت والسعودية 0,2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي على الأبحاث والتطوير، وهي أعلى نسبة في المنطقة العربية، حيث الرقم في بقية بلدان المنطقة هو أحياناً أقل من 0,1 في المئة. والانفاق على الأبحاث والتطوير في البلدان العربية هو في أحسن الأحوال عُشر المبلغ الذي ينفق في البلدان الصناعية. ووفقاً لإحصاءات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تنفق بعض البلدان، مثل اسرائيل، أكثر من 4 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الأبحاث والتطوير.
وفي ظل ضعف القدرة على إجراء الابحاث والتطوير على المستويات الوطنية، ليس لدى البلدان العربية بديل الا التعاون. واذا كانت أخفقت طوال عقود في التعاون على معظم الجبهات، فان مشكلة تغير المناخ قد تشكل «فرصة ذهبية» للبدء.
وهذا لن يتحقق من دون إرادة سياسية قوية وضغط جماهيري وارتفاع أصوات العلماء. وعملياً، يجب أن نبدأ فوراً بتثقيف الجمهور. لقد تحسن مستوى الوعي بتغير المناخ وتداعياته المستقبلية على الحياة اليومية للمواطن العربي، ولكن ما زال الطريق طويلاً، وعلى منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام أن تؤدي دوراً طليعياً في هذه العملية المتكررة على المدى البعيد. وعلى العلماء العرب، رغم ضعف «نفوذهم»، أن يناضلوا لجعل أصواتهم مسموعة. ان تغير المناخ مسألة تؤثر في جميع جوانب حياتنا، والأبحاث مطلوبة بإلحاح في مجالات الزراعة والمياه والموارد البحرية والصحة العامة والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة، على سبيل المثال لا الحصر.
ومن المؤسف أن يواصل المجتمع العلمي الجدل حول ما اذا كانت دلتا النيل في مصر ستتأثر بارتفاع مستويات البحار، مستشهداً بأبحاث ومصادر ضعيفة. ففي ظل غياب الأدلة العلمية الدامغة، سوف يستمر الجمهور وصانعو السياسة في تلقي رسائل مشوشة، تفضي في أحسن الأحوال الى عدم العمل
العدد 2929 - الأحد 12 سبتمبر 2010م الموافق 03 شوال 1431هـ
مزنة الخضر
وايد حلو مشكورين