مما لاشك فيه أن الإنسان يحب أشياء كثيرة في حياته ليحقق من خلالها سعادته، وأشياء أخرى كذلك يمقتها ويبتعد عنها، فمن الأشياء التي يحبها، حبه لتحقيق ذاته - سعادة، حبه للارتباط بشخص يشاركه حياته - سعادة، حبه لأطفاله - سعادة، حبه للعيش في مستوى معيشي مرفه - سعادة، والكثير من الحب، ولكن عندما يحب الإنسان السلطة ويعشقها بجنون حتى تصل به إلى أن تقتله وآخرين، أهذا حب؟ أجيبوهم يرحمهم الله.
أجيبوا هؤلاء المساكين الظالمين الذين لا يعلمون أن الله منح لهذا الإنسان فترة عمرية محدودة يقضيها في هذه الحياة الواسعة لعبادته وللعمل الصالح لنفسه وللآخرين ووعده بالجنة كما وعدهم بالنار وبئس المصير.
فما السلطة؟ "في زمننا هذا" هي سرطان يصيب كائنا حيا ظالما يعيش على هذه الأرض ويطلق على نفسه كلمة إنسان، يصول ويجول فيها مخلفا من ورائه الدمار الشامل، ليس ذاك الذي أخبرونا عنه بأنه موجود عند صدام لا بل إنه صدام نفسه وآخرون أمثاله في صورة أخرى مشابهة له يمارس من خلالها - ذاك الكائن الحي - على البشرية شتى أنواع الأسلحة المباحة وغير المباحة، الآدمية منها وغير الآدمية كذلك الفردية منها أو تلك ذات الإبادة الجماعية كل ذلك في سبيل السلطة وسلطته هو بالذات ولا غيرها.
ينصحونه فلا يستجيب، يرهبونه من غضب الإله عليه لا يبالي، يضعون أمامه نتيجة أعماله واستبداده فيحولها بدبلوماسيته العمياء إلى سلبية بسيطة عذره هو فيها استتباب فكره ونظرته الصائبة الثاقبة لعقول وأجساد الآخرين من حوله، نعم يفعلها ولا يأبه بما يجري وبما يخلفه من دمار حتى ولو كان شاملا!
لعلكم الآن وفي مخيلتكم تجول صورة لذلك الكائن الظالم لا بل أجزم، فكل منا في مخيلته صورة له، وكل بحسب ما جاءه منه من ظلم واستبداد ودكتاتورية، فالطفل ممكن أن تكون صورة الكائن لديه أخاه الأكبر حينما يغتصب لعبته منه والزوجة ممكن أن تكون الصورة زوجها "والعكس"، والمؤذن صورته امام مسجده والموظف صورته مسئوله في العمل - واسمحوا لي على ذكر العمل - ترى حتى رئيس الفراشين "مع احترامي" ممكن أن يمارس ظلمه وغطرسته وسلطته على الفراش المبتدئ والأقل خبرة منه، على سبيل المثال: "آنه اللي أصب القهوة للمدير وللموظفين لكبار وأنت حدك تقرب"! شيء مضحك لكن سبحانك يا رب! فالسلطوي كونه يحس بالنقص والضعف فاقدا لكثير من الصفات الحسنة الكمالية، وهو يشعر بهذا النقص، ويحاول أن يسد شعوره هذا بالتوسل بالظلم.
إن الله تعالى بعزته وجلالته وقوته نزه نفسه عن الظلم بقوله في محكم كتابه الكريم "وما أنا بظلام للعبيد" "ق: 29" لأنه عز وجل متكامل من جميع الجهات وغير محتاج إلى أي شيء، فلماذا يظلم؟ "إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف"، لذلك فإن حب السلطة من أخطر الأهواء عند بعض البشر، لأن المصاب بمرض حب السلطة يحاول وبشتى الوسائل والأساليب المحافظة على منصبه ومقامه ولو بالقتل وإخماد الأصوات وتشريد الناس.
كان النبي "ص" إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" اللهم بلغنا فأنك أنت العليم الخبير.
قال: "نحن مصانع صغيرة للحزن والألم، ندخل أنفسنا داخل كهف مظلم بمحض إرادتنا ثم نصرخ ضد الظلام...! ندخل إلى أنفاق مظلمة مع سبق الإصرار والترصد ثم نصرخ ضد انعدم الأكسجين...! وفي أكثر الأحيان - ليس في كل الأحيان - نحن الذين نحفر قبورنا الصغيرة بأيدينا، ثم نتألم بسبب ضيق القبر ووحشته...! هل سمعتم بوردة، أو عصفورة، قررت الانتحار...! الإنسان وحده يمارس هذه العادة القبيحة...! بعضنا ينتحر في حياته مرات كثيرة...! بعضنا ينتحر كل يوم... كل ساعة... كل لحظة...! حتى إذا أفاق من قتله لنفسه بدأ بالتحضير لعملية انتحار جديدة، أدواتها الضيق بالدنيا، وكراهية الآخرين، والرغبة في الاستحواذ، والاعتقاد بأن الدنيا يجب أن تسير كما نشتهي في كل يوم وفي كل لحظة...!"
"مقتبس من مقال أحمد الربعي - جريدة "الشرق الأوسط"".
رياض الجهيم
العدد 1094 - السبت 03 سبتمبر 2005م الموافق 29 رجب 1426هـ