استتباعا للأسباب التي حفزت العمل الجهاد الثوري نذكر أن وراء العمل السري الدؤوب الذي امتدّ لفترة زمنية طويلة نسبيا، لعناصر من الطلبة الذين درسوا في مصر في الستينات والسبعينات، وأخذوا الفكرة الجهادية من رموزها ومؤسسيها في مصر، أو من الذين تتلمذوا في مصر وخارجها على كتابات سيد قطب -رحمه الله- التي كتبها في زمن المحنة.
ثالثا: سيطرة مناخات الإحباط والفشل على الأصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، أدّت إلى شيوع رغبة شعبية جارفة في التغيير، ووجهت بالمزيد من الانسداد والتكلّس في قنوات التغيير السلمي والمدني والديمقراطي في كل ّالبلاد العربية، الأمر الذي جعل الكثيرين يفكّرون في خيارات أخرى للتغييرغير الخيارات المدنية والديمقراطية.
رابعا: سقوط مدوّ لإيديولوجيات الحكم في كثير من الدول العربية، وهي الأيديولوجيات التي قامت خلال ما يقرب من نصف قرت على تحرير فلسطين واستعادة المقدّسات... ثم لاحظنا فجأة ومن دون مقدّمات كثيرة، كيف تسابقت أكثر الأنظمة العربية، نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني تسابق الذباب إلى سلال العنب المتعفن... متخلّية عن خطابها القديم وأيديولوجيتها التي كانت بمثابة ركيزة حكمها طلية نصف قرن... وهكذا أضحت معظم الأنظمة تقيم حكمها على ما يشبه الفراغ والعراء الإيديولوجيين، عاجزة عن التبشير بمشروع جديد، وغير قادرة على صنع أملا أو أنْ تؤطر الناس في برنامج وطني أو قومي أو إسلامي... تحكم مجتمعاتها بالغلبة والقوة العارية، ويكاد سندها ومبررحكمها الوحيد يكون محصورا في أجهزة الأمن وأدوات الإخضاع والمراقبة والعقاب من دون غيرها.
وهكذا بدأت غيوم كثيرة تتلبد في السماء العربية، وأخذ شيء يقود إلى تعظيم الخيار الجهادي وإعطاء شرعية في النفوس، كوسيلة للرد على الحكومات الظالمة والفاشلة على كلّ الجبهات والأصعدة، والتي أغلقت منافذ التغيير، وسدت الطرق في وجه الفكرالإسلامي، وطبعت مع «إسرائيل».
ثم جاءت التجربة الديمقراطية الجزائرية التي لم تعمر أكثر من ثلاث سنوات، وانتهت بانتخابات برلمانية ديمقراطية، فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بمعظم مقاعد الدور الأوّل، وكانت مهيأة للفوز بمعظم مقاعد الدورالثاني، مما كان يؤهلها بعملية حسابية بسيطة، إلى امتلاك غالبية تفوق ثلثي مقاعد البرلمان، ويمكنها بالتالي، نظريا على الأقل، من استبدال الدستور وإحداث تغييرات جوهرية في الدولة والنظام، فزحفت الآلة العسكرية العمياء، ودهست الدبابات والمجنزرات صناديق الاقتراع، وذهب تصويت الشعب الجزائري هباء منثورا، ونكّل الجنرالات بالطرف الفائز في تلك الانتخابات والذي يفترض فيه أنْ يستلم مواقع الحكم والتوجيه في الدولة، فإذا به يجد نفسه وقواعده العريضة موزعا بين السجون والمنافي والمحتشدات والمقابر.
فشل تلك التجربة الديمقراطية الواعدة غذى الخيبة في قيام تجربة ديمقراطية ناجحة ومستدامة في عموم الوطن العربي، كما غذى اليأس من التغيير السلمي المدني والديمقراطي، وحينئذ بدأت تتعالى بقوة تلك الأصوات التي خبت وتلاشت في زحمة المد الديمقراطي في الجزائر؛ لتذكر بمقولاتها السابقة، ولتؤكد لمن له «قلب أو بصيرة» بأنّ الديمقراطية «نظام كفر»، وأنها ليست سبيلا لتحكيم الإسلام، وإنّ الإسلام لا يمكن أن يمكن له إلاّ بحد السيف والقوّة، وأنّ الحكومات لا يمكن مواجهتها إلاّ بأسلوبها نفسه.
وهكذا بدأ التيارالسلفي العمل المسلّح الذي بلغ «قمّة مجده» بين سنوات 1993 و1995، إلى الحد الذي أصبحت بفعله السلطة الجزائرية مهددة في وجودها تهديدا حقيقيا وجادا. وبين سنتي 1994 و1995 صارالتيار السلفي «الجهادي» تيارا جاذبا بقوّة، رجّت قوة جذبه قناعات بعض القيادات الإسلامية من خارج هذا التيار وعصم الله من عصم.
ومثل نار الهشيم التي تبلغ أوجها بسرعة ثم تخبو جذوتها بسرعة أكبر، بدأت جذب هذا التيار تخبو سريعا. وجاءت الانحرافات الخطيرة التي عرفها العمل المسلّح في الجزائر، وانتهاء فصائله المتطرّفة، إلى تكفير المجتمع الجزائري جمله، وتكفير قياداته الإسلامية، بما فيها قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وقتل بعضهم مثل الشيخ محمد السعيد وعبدالرزاق رجام، بتهم سخيفة من قبيل اتهامه بإتباع العقيدة الأشعرية. ثم تورّط هذه الجماعات في مجازر جماعية ضد عموم الجزائريين، وثبوت اختراقها من قبل المخابرات الجزائرية ومخابرات دول أخرى توظفها في أغراض تشويه الحركة الإسلامية ومن ورائها الفكرة الإسلامية والمشروع الإسلامي جملة.
العدد 2422 - الخميس 23 أبريل 2009م الموافق 27 ربيع الثاني 1430هـ