مونتريال. .. مدينة صاخبة، تعج بالاحتفالات والمهرجانات، والمسارح والطرب والغناء، تنشط في فصل الصيف، تشتعل بالحيوية حتى ساعات متأخرة من الليل، الجميع يسابق الجميع، هذا يركض، وذاك يعمل، وآخر يرقص، ملاهيها وباراتها الكثيرة تغص بالمرتادين في ليالي الأحد، مبانيها تجمع ما بين الحداثة والعراقة، كنائسها شاهقة وضخمة، وتحتل من التاريخ وتحمل من التراث الشيء الكثير، أضواؤها تُبالغ في الإنارة فتسحر العين، أسواقها ومجمعاتها ومحلاتها متنوعة وكثيرة ومذهلة، بل إن الأميركيين يأتون خصوصاً لمونتريال ليتسوقوا فيها. شدني كل ذلك أثناء مشاركتي في دورة تدريبية في مجال حقوق الإنسان في مونتريال بكندا، امتدت لمدة شهر، من يونيو/ حزيران حتى يوليو/ تموز الماضي، في جامعة جون أبوت، شارك فيها نحو 160 ناشطا حقوقيا من 65 دولة من كل بقاع العالم. تأسست مونتريال «على أنقاض الهنود الحمر، بعد الصراع الكولونيالي بين الإنجليز والفرنسيين أثناء سقوط دولة (فرنسا الجديدة) في القرن الثامن عشر». بهرجة مونتريال بهرجة خاصة تجتاح ليالي مونتريال المثيرة، إذ تنتشر الأسواق المفتوحة والعملاقة، يتوسطها بائعو المثلجات اللذيذة... تغطي مسارح الغناء ساحات مونتريال الواسعة، يتجمع الناس حول تلك المسارح، ليغرقوا في ألحانها الهادئة تارة والصاخبة تارة أخرى، وهناك، تقوم الموسيقى بدورها السحري لتجد الجميع يتمايلون ويتفاعلون ويهيمون. مونتريال التي أُطلق عليها «عاصمة الموسيقى والثقافة والفن وتراث المهاجرين»، أو «عاصمة اللغة الفرنسية الثانية بعد باريس»... يتناثر عشاقها المغرمون على الأرصفة، يتبادلون القبلات والهمسات، لينهوا لياليهم الساهرة برشفات نبيذ في أحد الملاهي الليلية أو البارات المفتوحة على الشارع. لا أحد يموت من الجوع، وسط صخب مونتريال، يبرز الفقراء المبدعون، فبدلاً من أن يستجدوا أو أن يتسولوا، كل منهم يبرز طاقاته الكامنة، فمنهم من يجلس حاملاً عوده ليعزف ألحاناً حزينة بالقرب من الكنيسة، فإن كنت كريماً فسيحظى بقطعة نقدية ثمناً لعزفه وليس استجداء، تضعها له في قبعته، ومنهم من يرسم على الأرض لوحة متقنة للموناليزا، ومنهم من ينقش بصورة فنية على الزجاج، هل يُعتبر ذلك «شحاتة راقية»، أم «عملاً شريفاً» وكرامة لا يمكن لك إلا أن تقدرها وتحترمها. ولكن على الضفة الأخرى، تجد متسولين بامتياز، فبعضهم يفترش الأرض مع صديقته، مرتديا ملابس رثة، ويمد يديه للمارة، غالبا ما يكونوا غارقين إلى حد الثمالة في السكر. قال لي أحد الكنديين: إن هؤلاء عاطلون، ولكنهم في المقابل يضيعوا جل أموالهم التي تؤمنها لهم الدولة، على الكحول، «فلا أحد يموت هنا من الجوع»، ثمة نظام للمساعدات تنفذه الحكومة الفيدرالية بكندا للعاطلين عن العمل، إذ تعطي كل عاطل 750 دولاراً شهريا، كما تقوم الحكومة بصرف رواتب شهرية لجميع الأطفال تحت 18 عاماً في صورة شيكات شهرية ترسل للوالدين، وذلك لجميع الأسر الكندية أو المهاجرين أو المقيمين دافعي الضرائب، ويتوقف هذا البرنامج على مقدار الدخل السنوي للأسرة . كما أن لديها نظاماً خاصاً بالمعونات الاجتماعية وصرف رواتب لكبار السن. يا لقوة إضراباتهم، في أحد صباحات مونتريال، تجمع عدد من العمال في أحد الفنادق المشهورة، أمام فندقهم، وأعلنوا الإضراب عن العمل. كادت أذني أن تُصم من صفيرهم. حملوا لافتات منددة بإدارة الفندق ومطالبة برفع الأجور، سألت إحدى العاملات عن سبب الإضراب، فأجابت: «نحن ننظف 8 غرف في اليوم، وهذا متعب كثيراً بالنسبة إلينا»... «لقد أضربنا الأسبوع الماضي، وسيضرب معنا غدا عمال 23 فندقا، إن لم تتم تلبية مطالبنا»، مبينة أن «إدارة الفندق تخشى من وسائل الإعلام، لذلك ما إن تتعنت في تلبية مطالبنا حتى نلجأ مباشرة إلى الإعلام». كما ذكرت أن «نقابتهم قوية، ولها صوت وكلمة لدى الإدارة، لذلك فإن الإدارة لا تملك إلا أن تستجيب للنقابة». دونت بعض ما قالته في مذكرتي، وقبل أن أغادر ضحكتُ بحسرة، ضحكة مخنوقة، فيا لقوة اضراباتهم، ويا لتأثير نقاباتهم، وفي فندق آخر، التقيت بعاملة مغربية أخبرتني، أنها لم تُرقّ منذ سنوات، وقد تمت ترقية عاملة أخرى، وأرجعت ذلك إلى كونها «عربية». كما تحدثت عن أبنائها الذين يدرسون في جامعات كندية الآن، ولم تخفِ رغبتها في البقاء، لأن ذلك أفضل لمستقبل أبنائها ولها، على حد قولها. على رغم ما يلمسه الزائر لكندا من ترحيب به، إلا أن «التقديرات العامة أشارت إلى أن نسبة 54 في المئة من المهاجرين غير مُرحّب بهم من قبل الطلاب الكنديين في مقاطعة كيبيك، وذلك في تقرير نشرته وسائل الإعلام الكندية في بداية شهر فبراير/ شباط 2005». الخادمة الآسيوية كان من ضمن برنامج الدورة زيارة مجموعة من المشاركين، لعائلة كندية في مدينة مونتريال، لتناول وجبة العشاء معهم، وتحقيق «التبادل الثقافي» في الوقت ذاته، على رغم ثراء تلك العائلة، إلا أن بيتها كان متواضعا، خشبيا، يجمع ما بين الأناقة والبساطة، سألونا عما إذا نريد «رد واين» أو «وايت واين» وهي أنواع من الكحول أو «عصير»، كلهم طلبوا «الرد واين»، أما أنا فاكتفيت بعصير البرتقال بدلاً من «عصير العنب»، استقبلتنا العائلة بود ولطف كبيرين، الزوج يعمل كمحام، والزوجة مستشارة قانونية، كانا متلهفان لمعرفة المزيد عن الثقافة العربية، والعادات والتقاليد، وسبب لبس الحجاب، وفي الوقت ذاته كانا ملمين بالوضع السياسي المتردي في الدول العربية. كان من بين أطباق وجبة العشاء رز، تم طهيه على الطريقة الخليجية، قد طهته مساعدة ربة المنزل، وهي من أصل آسيوي. كان للمساعدة كرسي محدد على طاولة الطعام، كانت تتحدث وتسأل وتتصرف، كما لو كانت فردا من أفراد العائلة، قالت إنها تجيد الطهي الخليجي، لأنها عملت في الإمارات لسنوات عدة. أخبرتني أنها عملت في الإمارات كخادمة. وأردفت «كنت أعمل لساعات طوال، من دون راحة، أكنس، وأغسل، وأطهو، وأعتني بالأطفال، وكان أفراد الأسرة يضربونني ويعاملوني بدونية، لذلك هربتُ إلى كندا... فهنا أعامل كإنسان، وأعمل لساعات محددة، ولدي عطلة كل أسبوع، ورب الأسرة يوصلني إلى منزلي، كما أني أعمل عملاً تطوعياً لدى المنظمة الكندية لحقوق الإنسان». المهاجرون العرب يعيش الكثير من العرب في مونتريال، غالبيتهم يعمل كسائق تاكسي، أو صاحب محل، أو متجر صغير، كما تكثر المطاعم العربية وخصوصاً اللبنانية منها، التي غالبا ما تبيع «اللحم الحلال»، قد تكون تلك المطاعم بمثابة الملتقى بين المسلمين والعرب ببعضهم بعضا، وعلى رائحة الزيتون والحمص، تجد الغالبية تتحدث اللهجة اللبنانية المُختلطة بالكلمات الإنجليزية. العرب هناك يتوقون للحديث مع الزوار أو السياح العرب، فما إن يروك، حتى يتحدثوا عن هموم الغربة، والحنين إلى الوطن، والأوضاع في الدول العربية، والوضع السياسي في بلدانهم، ويسهبوا بشكل عفوي في الفرق الشاسع ما بين دولهم وكندا... وكأنهم أدركوا بعد الهجرة معنى «الديمقراطية الحقيقية». سألني أحد الباعة العراقيين، هل أنت عراقية؟ أجبته بلا، فقال، إذن إيرانية، فأجبته بل بحرينية، أخذ يتحدث عن البحرين، و«أهلها الطيبين»، ومن ثم أرشدني ودلني على الأماكن السياحية في مونتريال، وضرورة زيارتها، اشتريت من محله تحفة لـ «شعار كندا»، و«بطاقة تذكارية لمونتريال»، أعطاني البطاقة مجاناً كهدية، وباعني التحفة من دون ضرائب، يبدو أن العرب كرماء حتى وسط مونتريال، تستقبل كندا سنوياً 200 إلى 250 ألف مهاجر، بل إن كندا تعتبر ملاذاً للمهاجرين، ربما لأنها دولة آمنة وديمقراطية، وشعبها مسالم، وتتمتع برفاه اقتصادي، وليس أدل على ذلك، اختيار الأمم المتحدة لكندا كأفضل بلد في العالم للمعيشة لثماني سنوات مختلفة، ولسبع سنوات متواصلة هي: 1992 1994 1995 1996 1997 1998 1999 .2000 علاوة على ذلك فإن المهاجر يتمتع منذ اليوم الأول لوصوله بجميع الحقوق الأساسية التي يتمتع بها الكنديون إلا حق الانتخاب. حُلم الهجرة، التقيت في العاصمة الكندية (أوتاوا) ببتول عاشوري، وهي صديقة بحرينية، هاجرت عائلتها منذ سنوات لكندا، فقد كان والدها من ضمن النشطاء السياسيين المُهجرين. بتول ذات الجنسية الكندية، والتي تدرس العلوم السياسية في جامعة أوتاوا، لا تشعر بالانتماء لكندا، ولا تمثل لها أضواؤها وسحرها قيمة تُذكر. بتول التي عاشت طوال عمرها في بيئة الحرية والديمقراطية والتنوع الثقافي، والانفجار المعرفي والتطور التقني، تحلم يوميا بالعودة. أما أنا بعد كل ذلك، فلا يراودني إلا حُلم الهجرة
العدد 1204 - الخميس 22 ديسمبر 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1426هـ