العدد 3144 - السبت 16 أبريل 2011م الموافق 13 جمادى الأولى 1432هـ

حاشية على «اسم الوردة»آليات الكتابة لـ «أمبرتو إيكو» (2)

1. العنوان والمعنى

توصلت، بعد كتابتي لاسم الوردة، بعدد هائل من الرسائل كانت في مجملها تحمل تساؤلات حول دلالة البيت الشعري (1) المكتوب باللغة اللاتينية الذي تختتم به الرواية، وعن كيفية انبثاق العنوان عنه؟ وكنت أرد دائما أن الأمر يتعلق ببيت شعري مأخوذ من كتاب لبرنار دو مورليكس «حول أشياء الحياة الهشة «، ودو مورليكس هذا راهب من القرن الثاني عشر الميلادي قام بنسج أبيات انطلاقا من موضوع «التحسر على الذين غابوا» (ومنها اشتقت فيما بعد): لكن أين ذهبت ثلوج الزمن الماضي لـ (فيلان) (2)، وقد أضاف بهذا العمل إلى الموضوعات المعروفة (مثل «عظماء من السلف»، «المدن العتيقة»، «الأميرات الجميلات» ، «العدم حيث يندثر كل شيء») الفكرة القائلة بأنه إذا كانت كل الأشياء آيلة إلى الزوال، فإننا نحتفظ منها بأسماء خالصة.

وأذكر أيضا أن أبيلار استعمل المثل الوارد في الملفوظ «لا وجود لأية وردة» nulla rosa لكي يبين إلى أي حد يمكن للغة أن تتحدث بنفس القوة عن الأشياء المندثرة وعن الأشياء الموجودة. ولهذا فإنني أترك القارئ حرا في خلاصاته، فالسارد، في رأيي، ليس ملزما بتقديم تأويلات لعمله، وإلا لما كانت هناك حاجة إلى كتابة رواية، فالروايات هي بالأساس آلات مولدة للتأويلات.

ومع ذلك، فإن كل هذه الكلمات المعسولة تنتهي بنا إلى حاجز لا يمكن تخطيه: يجب أن يكون للرواية عنوان ما.

والحال أن العنوان، ونحن نتأسف لذلك، هو أحد المفاتيح التأويلية. فنحن لا نستطيع أن نفلت من الإيحاءات التي تشير إليها عناوين مثل: «الحرب والسلم»، «الأحمر والأسود». إن أكثر العناوين إثارة لاحترام القارئ هي تلك التي يتم تكثيفها في اسم دال على البطل: «دافيد كوبرفيلد» أو «روبنسون كروزو». وحتى في هذه الحالة فإن الاسم/ العنوان يمكن أن يؤول على أنه تدخل مبالغ فيه من لدن المؤلف. فالعنوان: «الأب غوريو» يركز على صورة الأب العجوز، في حين أن الرواية هي أيضا ملحمة راستينياك أو فوتران ألياس كلولين. وربما علينا أن نكون لؤماء بشكل نزيه كما فعل دوماس في les Trois Mousqutaires التي هي في واقع الأمر قصة أربع شخصيات. ولكن الأمر لا يتعلق هنا سوى بترف نادر لا يقوم به المؤلف إلا بشكل استثنائي.

وفي الواقع فإن روايتي كان لها عنوان آخر : دير الجريمة. ولقد استبعدته لأنه لا يركز سوى على العمق البوليسي. وكان بالإمكان أن يقود هذا العنوان المهوسين والمحبين للقصص البوليسية إلى التهافت على رواية ستخيب ظنهم دون شك.

وكنت أحلم أيضا بأن أعطي كتابي عنوانا آخر: أدزو دو ميلك. فهو عنوان محايد، ذلك أن أدزو هو في نهاية الأمر صوت المحكي. إلا أن الناشرين في إيطاليا لا يحبون أسماء الأعلام. فـ Fermo e Lucia (*) نفسه تم تحويره، وهناك عدد قليل من الأمثلة في هذا المجال: LemmonioBoreo، Rubé ou Metello، ونفس الشيء يقال عن مجموعة من العناوين في آداب أخرى مثل Cousine Bette و Barry Lyndon و «ArmanceوTom Jones. والصدفة وحدها جعلتني أستقر على فكرة اسم الوردة . ولقد راقني هذا العنوان، لأن الوردة صورة رمزية مليئة بالدلالات لدرجة أنها تكاد تفقد في نهاية الأمر كل الدلالات: «الوردة الصوفية»، «حرب الوردتين»، «إن الوردة هي الوردة هي الوردة هي الوردة»، «وردة الصليب»، «أشكرك على هذه الورود»، «الحياة الوردية». وحينها لن يكون القارئ قادرا على اختيار تأويل ما، وحتى عندما يكون بمقدوره الإمساك بقراءة ما من خلال البيت الأخير، فإنه يكون قد قام بعدد لا يحصى من الاختيارات. إن العنوان يجب أن يشوش على الأفكار لا أن يقولبها.

ولا شيء يواسي مؤلف رواية ما سوى اكتشافه لقراءات اقترحها القراء ولم تكن لتخطر له على بال. فعندما أكتب أعمالا نظرية، فإن موقفي تجاه النقاد يتخذ طابعا قضائيا: هل فهم هؤلاء النقاد ما كنت أود قوله ؟ لكن الأمر يختلف اختلافا جذريا في حالة الرواية. ولا أعني بهذا أن المؤلف لا يستطيع اكتشاف قراءة قد تبدو له عبثية، ولكن عليه أن يصمت في جميع الحالات. فالآخرون وحدهم لهم الحق في معارضة ذلك وحجتهم في ذلك هي النص. أما ما عدا ذلك، فإن أغلبية القراء يكشفون عن معاني لم يتم التفكير فيها. ولكن ماذا تعني العبارة: لم يفكر فيها؟

قالت جامعية فرنسية، واسمها ميراي كال غروبر(M. Calle Gruber)، إنها عثرت على جناس يربط بين كلمة simples) بمعنى البسطاء) وبين simple التي تحيل على أعشاب طبية، لكي تكتشف بأنني أتحدث عن «النبتة السيئة (male plante)» المعروفة في الهرطقة. والجواب بسيط: إن لفظ simples موجود في أدب تلك المرحلة بالمعنيين السابقين، وكذلك الأمر مع «»male plante ومن جهة ثانية، كنت على علم بالمثال الذي يقدمه كريماص للدلالة على التناظر المزدوج الذي يتولد عن تعريفين للأعشابي باعتباره ami des simples. فهل كنت واعيا أم لا بهذا الاستعمال الجناسي؟ لا فائدة من معرفة الجواب، فالنص حاضر وهو الذي ينتج وقعه المعنوي.

عندما أقرأ النقود الخاصة بروايتي، أرتعش سعادة عندما أعثر على نقد (النقود الأولى قام بها كل من جونيفرا بومباياني و لارس غيستافسون) يشير إلى جواب غيوم بعد نهاية المحاكمة. فلقد سأله أدزو (ص 391 من الترجمة الفرنسية) (*) (ما الشيء الذي تخشاه أكثر في الطهارة)؟ فأجاب غيوم (العجلة). لقد أحببت هذا الرد ومازلت أحبه. إلا أن هناك قارئا آخر لاحظ أن برنار غي يقول في نفس الصفحة، وهو يهدد القيِّم على الدير بالتعذيب: «إن العدالة لا تكترث للعجلة، كما يدعي ذلك الحواري المزيف، ولعدالة الله متسع من الوقت». إن الترجمة الفرنسية تستعمل كلمتين مختلفتين ولكن الإيطالية تستعمل مرتين كلمة «fretta». فقد سألني القارئ، وكان على حق، عن طبيعة العلاقة بين «العجلة» التي كان يخشاها غيوم وبين العجلة كما وردت في حديث بيرنار. ولقد أدركت لحظتها أن شيئا محزنا ما قد حدث.

والواقع أن الحوار الذي دار بين غيوم وأدزو لا وجود له في المخطوط، لقد أضفته بعد ذلك لخلق نوع من التوازن في بناء الرواية. لقد كنت في حاجة إلى إدخال فقرة قبل أن أعطي الكلمة من جديد إلى بيرنار. والحال أنني وأنا أجعل من غيوم كارها للعجلة (بكثير من الاقتناع وهو ما جعلني أحب هذه الإجابة) نسيت كليا أن بيرنار تحدث قبل هذا عن « العجلة».

فإذا أعدنا قراءة رد برنار (3) دون الاهتمام برد غيوم، فإن الأمر لا يعدو كونه طريقة في الكلام كتلك التي يستعملها قاضي، أي عبارة من نوع «كلنا متساوون أمام القانون». وللأسف، فإن وجود كلمة «العجلة» التي يتحدث عنها غيوم في نفس السياق الذي وردت فيه عند بيرنار خلق أثرا معنويا ما. ومن حق القارئ أن يتساءل هل يتحدث الرجلان عن نفس الشيء؟ هل فظاعة العجلة التي يعبر عنها غيوم لا تختلف كثيرا عن فظاعة العجلة عند بيرنار؟. لقد قضي الأمر، فالنص قد أنتج وقعه المعنوي الخاص. وسواء أردت ذلك أم لا، فإنني في الحالتين معا أمام سؤال، بل أمام استفزاز غامض. إني أشعر بحرج في تأويل ما حدث، حتى وإن كنت مقتنعا بوجود دلالة مختفية لهذا الأمر (وربما دلالات).

على المؤلف أن يموت بعد كتابته لرواية ما لكي لا يشوش على مصير النص. (4

العدد 3144 - السبت 16 أبريل 2011م الموافق 13 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً