العدد 1234 - السبت 21 يناير 2006م الموافق 21 ذي الحجة 1426هـ

« أوليفر تويست» من إخراج رومان بولانسكي عالم ديكنز مفارقة زمنية بين الأشرار والملابسات الإنسانية

يعرض في سينما الدانة فيلم «أوليفر تويست» من إخراج رومان بولانسكي. الفيلم يتحدث عن قصة طفل يتيم تتقاذفه المصادفات من ميتم تشرف عليه مؤسسة كنسية إلى مدينة لندن إذ تصطاده عصابة تحترف النشل. الفيلم يتناول قصة يتيم لكنه ليس للأطفال. فالمخرج المعروف بواقعيته اقتبسه من رواية تشارلز ديكنز الذي عاش فترة كانت بريطانيا تنتقل فيها من حال اجتماعية إلى أخرى في نهايات القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. ولد ديكنز في العام 1812 وتوفي في العام 1870 وكتب سلسلة روايات واقعية اجتماعية تصور بسخرية حالات الظلم والبؤس التي كانت فئات واسعة من المجتمع تعاني منها في لحظة تاريخية بدأت فيها بريطانيا بالانتقال من اقتصاد الريف إلى اقتصاد المدينة. حاول ديكنز في رواياته وتحديداً «ديفيد كوبرفيليد» و«أوليفر تويست» وصف ذاك العالم السفلي من المجتمع. فهذا العالم خاص ويمتاز باعتماده على اقتصاد النصب والاحتيال والنشل والسرقة. ومن خلال وصف علاقات ذاك العالم وشبكاته يكشف ديكنز الوجه الآخر للرأسمالية التي بدأت تمتد وتتوسع للسيطرة على السوق الداخلية. وبسبب تلك الهجمة الرأسمالية سقطت الكثير من الفئات إلى عالم مجهول تقوده عصابات استغلت الأطفال والشباب والصبايا لتشغيلهم في أعمال خارجة على القانون لكسب المال الحرام من أجل العيش في دولة غير عادلة تتحكم في اقتصادها حفنة من الارستقراطية التي أخذت تغيب عن مسرح التاريخ مقابل حفنة من الأغنياء أخذت تفرض سيطرتها على ثروة البلد من دون اكتراث لسلبيات التقدم الصناعي الزاحف على مختلف المناطق. ديكنز عاش تلك المرحلة الانتقالية وشهد وقائعها الجارية والكيفيات التي كانت الدولة تقود بها الاقتصاد. والوصف الاجتماعي الذي اختاره ديكنز لرواياته يشكل حالاً فريدة من نوعها في هذا الحقل. إلا أنه لم يكن الوحيد الذي عاصر تلك التحولات. فهذه الصور شهد عليها الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع والاقتصاد. وتحدث الكثير من السياسيين والايديولوجيين عن سلبياتها ومظاهرها العدوانية ضد الإنسان. الفيلم لا يتحدث عن الآلات والمصانع وإنما يتناول قصة إنسان (طفل بريء) قادته الظروف إلى ميتم تشرف عليه ارسالية مسيحية يتحدث القائمون على إدارتها عن المحبة والتسامح ويتظاهرون بالتدين بينما معاملتهم في واقع الحال للأطفال تختلف كلياً عن تلك الكلمات التي يرتلونها صباح مساء. القصة تبدأ من الميتم وتنتهي في بيت ارستقراطي جمعته المصادفة مع الطفل المشرد. وبين البداية والنهاية تتداعى القصة من الريف إلى المدينة. فالطفل (أوليفر) يضطر إلى الهرب من الميتم بسبب الظلم والعمل الدائم والتجويع المتعمد بحثاً عن ملجأ آخر لا يجده في الريف. لم يقرر اوليفر الذهاب إلى لندن وإنما المصادفة دفعته إلى اختيار ذاك الطريق. فهو مثله مثل الكثير من الفئات التي قذف بها المجتمع إلى هامشه فاضطرت إلى مغادرة قراها والذهاب إلى تلك المدينة بحثاً عن وظيفة أو عمل تقتات منه خبز يومها. أوليفر ليس حالاً خاصة وإنما ديكنز اختاره للاختصار ولتقديم فكرة موجزة عن عالم ظالم انقسمت فيه علاقات الناس وتشققت فصعدت فئات إلى فوق وسقطت فئات إلى تحت. ديكنز يتحدث عن هذا الـ «تحت» وهو ذاك العالم السفلي الذي تراكمت فوقه طبقات وطبقات من البشر ولم تترك له فسحة للتأمل أو الأمل ولا مجال للعيش في الحدود الدنيا. هذا العالم السفلي موقعه ما دون الحد الأدنى وموجود في مكان لا تراه الدولة ويعيش في أزقة جانبية لا يدخلها سوى البؤساء والمذعورين (الهاربين) من قساوة الدنيا. ومثل هكذا عالم لا يمكن رؤية الا حالات فقر وجوع وأطفال لا آباء لهم وفتيات يعملن في الدعارة لتأمين لقمة العيش. انه عالم مكسور أنتجه عالم جديد خرج من الآلة وقذف بالإنسان إلى السوق من دون رعاية أو حماية أو ضمانات للشيخوخة أو المرض. ديكنز يتحدث في روايته عن خصوصية هذا العالم المجهول من خلال سيرة طفل يتيم. فالطفل (المستقبل) هو المدخل ومنه يطل القارئ (المشاهد) للتعرف على تلك التفصيلات اليومية لشبكات امتهنت السرقة والدعارة والنشل وتشغيل الأطفال مقابل المأوى ولقمة الخبز. قصة الطفل ليست مهمة. فالطفل مجرد واسطة إنسانية لمشاهدة تلك المساحة من البشر. وديكنز الذي عرف عن رواياته الدقة في وصف تلك الدهاليز الاجتماعية نجح في كشف ذاك التراتب الهرمي. فهناك منازل فوق منازل وبشر فوق بشر وصولاً إلى قعر مجتمع تقوم قاعدته على شبكة من الأطفال والفتيات لا وظيفة لهم سوى سرقة من له وظيفة. هكذا كانت بريطانيا في مطلع القرن التاسع عشر. فمن فوق كانت دولة عظمى تتوسع في البحار وخارج حدودها وتكتسح مناطق نائية من الصين والهند إلى إفريقيا والخليج ومصر وبلاد الشام فارضة هيبتها بالقوة العسكرية لنهب خيرات الشعوب وثرواتهم. ومن تحت كانت مجرد هيكل عظمي لا تقوى على فرض سلطتها على مختلف فئات الناس. فهناك فريق مجهول الهوية ومختلط يعيش على هامش بدايات تشكل المجتمع الصناعي الحديث. وهذا الفريق هو ضحية ذاك التطور السريع الذي أخذ ينمو ويتكون ويحطم تلك العلاقات القديمة لمصلحة الشكل الطبقي الجديد للمجتمع. والعالم السفلي هو ذاك الوعاء الذي يستقبل الساقطين والهاربين والخائفين من آلة رأسمالية تكتسح السوق وتقذف بالناس خارج دائرة العمل إلى ملعب البطالة. ديكنز يتحدث عن مرحلة انتقالية. فهناك ارستقراطية شائخة تنازع من أجل البقاء الاقتصادي. وهناك كنيسة يشرف على إدارتها رجال ترهلوا من التخمة ويتباهون بخدمتهم للدولة. وهناك مدينة (شابة) تنمو وسط زحام البشر وتكدس الناس النازحين من الريف. وهناك كتلة من الفقر تعيش على هامش الحياة ابتكرت أساليبها الخاصة للكسب. كل هذه الأطياف الاجتماعية مرّ عليها ديكنز في روايته لكنه اتجه نحو تركيز الانتباه على تلك الشريحة من النصابين البؤساء والبسطاء التي تعيش في عالم خاص بها وتمارس الممنوعات وكل ما يخالف القانون. المخرج بولانسكي التقط هذه الرواية وقام بإعادة تصويرها في ضوء تلك المرحلة الانتقالية التي كانت بريطانيا بدأتها قبل أكثر من قرن. وبولانسكي ليس المخرج الأول الذي انتبه إلى تلك التفصيلات الاجتماعية لكنه ربما كان الأكثر انتباهًا لتلك الملابسات الإنسانية التي لا تغيب عن البشر حتى في ذاك العالم السفلي. الملابسات الإنسانية هي تلك الإشارة الخفية التي أراد الروائي ديكنز ارسالها من خلال وصفه الدقيق وملاحقته لكل تفصيلات ذاك العالم المجهول. ففي هذه المساحة من الأشرار هناك مشاعر إنسانية وحب وإخلاص تراجعت مؤقتاً بحكم الظروف ودوافع الحاجة الا أنها لاتزال موجودة وتظهر أحياناً حين يتعرض الإنسان للامتحان. فزعيم العصابة يتمتع ببعض تلك الصفات الإنسانية. فهو ليس الشر المطلق. والغانية أيضاً تتحرك أحاسيسها الإنسانية حين تتعرض حياة الطفل للخطر. والعائلة الارستقراطية التي تعيش في برج عاجي لم تتردد في المخاطرة لإنقاذ طفل من ذاك العالم السفلي. هناك أمل إذاً. هذا ما أراد ديكنز قوله في روايته. وعند هذا المشهد يتوقف بولانسكي عن التصوير. فالعالم صعب، والضحايا كثر، والأبرياء يتساقطون دائماً، والبسطاء يدفعون الثمن، والبسمة أيضاً لا تفارق الحزن. هناك فسحة للأمل والتقدم والحياة. وهذا ما أشار إليه بولانسكي في مشهد النهاية بين لقطة تصور بناء تلك المشنقة لإعدام الشرير (رئيس العصابة) وبين لقطة تصور ذاك الطفل الذي خرج من عالم الشر لكنه يكنُّ لذاك الشرير بعض عطف وحنان. هذا هو العالم المفارق الذي رسمه ديكنز بالكلمات في القرن التاسع عشر وجاء بولانسكي في أيامنا ليعيد تصوير تلك اللحظات بواقعية تنقل المشاهد إلى زمن آخر لكنه لم يمض إلى أيامنا. العالم السفلي باق والأمل بغد مشرق لم ينته بعد...


أوليفر تويست

اقتباس موفق... سرد ممتع... وكينغسلي يسرق الأضواء

الوسط-محرر الشئون الفنية

القيام بتحويل أية رواية إلى فيلم سينمائي هو أمر ليس بالهين، وخصوصاً إذا كانت تلك الرواية تم تقديمها عدداً لا يحصى من المرات كما هو الحال مع رواية فيلم اليوم التي كتبها تشارلز ديكنز والتي يصل عدد الأفلام المقتبسة منها الى 10 أفلام تتنوع بين الروائية وأفلام الانيمي قدم أولها في العام 1922 وها هو آخرها يعرض الآن على يد المخرج البولندي الشهير رومان بولانسكي. هي فعلاً مجازفة كبرى، أبى بولانسكي إلا أن يخوضها مع رواية تشارلز ديكنز الشهيرة التي تتناول مغامرات الفتى الصغير أوليفر تويست، وتدور وقائعها في بريطانيا في نهايات القرن الثامن عشر. نجح بولانسكي في إعادة تقديم الرواية بشكل مميز ولافت للنظر جعل كثيرين يفاضلون بين هذا العمل وآخر نسخة من الرواية قدمت في العام 1948 على يد ديفيد لين. بولانسكي استغنى في نسخته الجديدة هذه عن كثير من القصص والحوادث الفرعية في الرواية، الأمر الذي أعطى هذه النسخة المخففة مساحة توسع فيها كاتب النص رونالد هاروود في إعطاء تفصيل أكبر لكل شخصيات العمل. ولعل التخلص من تلك القصص الفرعية جاء على حساب بعض القصص المهمة التي كان ممكنًا أن تضفي لمسة مميزة إلى العمل لو تم التطرق إليها بشكل أكبر، كتلك التي تناقش العلاقة التي تربط بين أوليفر ونانسي. كذلك سمحت نسخة هاروود بالكشف عن خيوط درامية جديدة كاشفة بعض التفاصيل التي لم يتم التطرق اليها في أي من النسخ السابقة، بشكل يتناسب مع الحقبة التاريخية التي تحصل فيها وقائع القصة. وعلى رغم كل التغييرات والاضافات المميزة، فإن الفيلم احتفظ بالمفارقات الرئيسية التي تركز عليها الرواية وهي التي تتركز على الفقر والغنى، حياة المدينة وحياة الريف، الخير والشر، وغير ذلك من المفارقات التي أبرزها التصوير السينمائي البارع والإخراج المتميز الذي قدم بعض المشاهد الريفية الخلابة ليقارنها وليوضح تناقضها مع قذارة مدينة لندن آنذاك. إلى جانب ذلك تميز العمل الجديد بالسرد الممتع لوقائعه والذي بدا

العدد 1234 - السبت 21 يناير 2006م الموافق 21 ذي الحجة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً