العدد 1259 - الأربعاء 15 فبراير 2006م الموافق 16 محرم 1427هـ

أنا محتجة!

قالت: «إنني محتجة... فلوحتك لا تشبهني!»، ورد ساخرا: «ولكنك ستشبهين لوحتي يوما...». هذا هو بيكاسو في تقلباته الفنية، شرس، أناني، وحشي الطباع، تجاوز كل ما هو محظور من مادة الفن الى ملامح ابتكارية تسكن معاناته الفنية، جسداً وعقلاً.

مهجوس ببعد ما يراه الى ما لا يراه من حرية واختراعات فريدة، جعلت منه فنانا عبقرياً من جهة، ومثيرا للجدل في استقواء طيات ألوانه التي تنطلق عبر سطح اللوحة بحدود يحاصرها بأنامله أو على الأرجح لصور من «البورتريهات»، أي اللوحات الأكثر التصاقا بحياته، التي غدت بدورها معالجة خاصة لعشيقاته الحسناوات اللاتي عبرن جانبه الروحي والجسدي، لاستغواء خطوطه الحادة، وألوانه المتصارعة في جغرافيا لوحته، الأشد فتنة وجمالاً.

شيطان الرسم وسفاحه، متربع على عرش الفن بكل متغيراته العصرية، التي لم يتسن لأحد مواكبة فنه اللاهث المنغمس الى حد الشغف بغرائب ألوانه وأسلوبه في التفكير، نحو ابتكار أجساد تتسم بجمالية المدارس التي ابتدعها بنفسيته المتشعبة خلال روائع مراحله الفنية الزرقاء، وصولاً الى الوردية، والتي لا تحددها الكلمات بكلمات، وحدها وجدانية العبث قد تجدي.

يمتزج بمزاجية غربية في استلطاف اللمسة الهائمة بالتنوع والتشكيل، منحدراً الى الكلاسكية لتفعيل بدايات التكعيبية. والملاحظ أنه كلما استبدل ملهمته، استعار بأسلوب جديد يثير الفن.

وكيف يشتغل بيكاسو بلغة التكعيب، هو يستثمر أدواته الفنية المتربصه بالجمال البصري، في تصوير ذاته الفكرية وبلاغة زخم الاستيحاء المحتشدة ما بين أساليب ذاكرته العبثية، التي بدورها أتاحت مجالا للتعبير بفن قريب الى النحت، مستثمراً ما يراه الى كتل صماء، تتجسد بدورها اللا لون، من «الرمادي الفاتح» و«الداكن»، وصولاً إلى طغيان اللون، في عمق الكتل لتتحول لمساحات متوازنة من الأجزاء، ذات زوايا متعددة. يظل الشرط البصري هو المنطق، هو المبدأ الأصلي، ومنطق بيكاسو المتفوق فيه.

أسطورة بيكاسو لا تتمثل فقط في التنفيس عن رغبات مكبوتة تثقل أعماقه، بل بتحطيم، وتشويه، وتهشيم ما يرسمه مرة تلو مرة. نحو إبراز قيمة تعبيرية في لوحته الفنية، ليتكون في هذا اللقاء معطى جديد من الفن، تتغلغل فيه ألوانه الدافئة بذاكرة استثنائية يتجلى الابتكار الفني الحاصل بملامح خاصة، مخترقاً النفس والأشياء. فالذي يرى إنما هو الى حين، وأما مالا يُرَى فهو للأبد.

التنوع المذهل الذي يسمنا بيكاسو به ما هو إلا شراب استساغه هو بجرعات في أساليبه الفنية ليخاطب به العالم الخارجي بصمت صارخ، عبر متعة خاصة في عملية الرسم، تبتدع أشكالاً غريبة، وهنا يتميز هذا الفنان بتفوقه على الفن ذاته.

هدير البقالي

العدد 1259 - الأربعاء 15 فبراير 2006م الموافق 16 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً