العدد 3152 - الأحد 24 أبريل 2011م الموافق 21 جمادى الأولى 1432هـ

آليات الكتابة لـ «أمبرتو إيكو» (8)

حاشية على «اسم الوردة»

ترجمة وتقديم - سعيد بنكراد 

24 أبريل 2011

هل هناك كاتب يكتب فقط من أجل المستقبل؟ لا وجود لكاتب من هذا النوع، حتى وإن أكد هو ذلك، وذلك لسبب بسيط: فبما أن هذا الكاتب ليس نوستراداموس (22)، فإنه لن يتصور المستقبل إلا من خلال النموذج الذي يبلوره انطلاقا مما يعرفه معاصروه.

هل هناك كاتب يكتب لقلة من القراء؟ نعم، إذا كان ذلك يعني أن القارئ النموذجي الذي يتصوره، ليس له حظوظ كبيرة في أن يتجسد في جمهور عريض.

ورغم ذلك، وحتى في هذه الحالة، فإن المؤلف يكتب وله أمل، وهذا ليس سرا، في أن يستجيب لكتابه أكبر عدد من النماذج الممثلة لهذا القارئ المنشود بإلحاح، وهو ما يفترضه النص ويشجع عليه.

قد يكون الاختلاف، إن كان هناك اختلاف، بين النص الذي يروم إنتاج قارئ جديد وبين ذاك الذي يروم إرضاء رغبات جمهور عريض. ففي الحالة الثانية نحن أمام كتاب كتب وفق وصفة موجهة لإنتاج مادة بالجملة. فالمؤلف يقوم بما يشبه دراسة للسوق لكي يتكيف مع متطلباتها. إن هذا العمل المستند إلى صيغة جاهزة لا تظهر معالمه الحقيقية إلا بعد دراسة مجموع نماذجه: فعندما نتأمل كل هذه الروايات سنلحظ، إذا ما نحن غيرنا الأسماء والأمكنة والملامح، أن المؤلف يروي فيها نفس القصة، تلك التي يرغب فيها الجمهور.

أما عندما يبحث الكاتب عن الجديد ويسقط قارئا مختلفا، فإنه لا يريد أن يكون دارسا للسوق من أجل تحديد نوعية الطلبات، بل يريد أن يكون فيلسوفا يستشرف لحمة Zeitgeist. إنه يكشف لجمهوره ما يجب عليه أن يرغب فيه حتى وإن كان هذا الجمهور لا يعرف ذلك، إنه يريد أن يُعَرِّف القارئ بنفسه.

فلو أن مانزوني (23) انساق وراء ما كان يوده الجمهور لأصبح ثريا: الرواية التاريخية القروسطية بشخصياتها الشهيرة، تماما كما هو الشأن في التراجيديا اليونانية حيث الملوك والأميرات (أليس هذا ما قدمه في L»Adelchi)، أهواء عظيمة وكبيرة، معارك حربية، واحتفاء بالأمجاد الإيطالية في زمن كانت فيه إيطاليا أرضا للغابات. ألم يقم بذلك روائيون قبله ومعه وبعده، هؤلاء الروائيون التاريخيون التعساء بدءا من L»Artisan d»Azeglio إلى Fougueux et Vaseux Guerrazzi مرورا بـ L»Illisible Cantu؟

فماذا فعل مانزوني؟ لقد اختار القرن السابع عشر: فترة الاستعباد والأنذال وقاتل مأجور، واحد ولكنه ماكر، ولا سرد للمعارك. يضاف إلى ذلك اختياره الشجاع بأن يُرفق قصته بالوثائق والصرخات. ولقد نال هذا العمل إعجاب كل الناس: مثقفين وعامة، عظماء وبسطاء، متعصبين وأكلة الرهبان.

لقد أدرك أن هذا ما كان يريده القراء، حتى وإن كانوا يجهلون ذلك ولا يطلبونه، حتى وإن كانوا لا يتصورن إمكانية استهلاكه. ولقد تطلب ذلك جهدا كبيرا: المبرد والمنشار والمطرقة والغسيل لكي يكون هذا المنتوج عذب المذاق، ومن أجل أن يصبح القراء الفعليون قراء نموذجيين كما كان يتمنى.

لم يكن مانزوني يكتب لكي يتملق الجمهور، ولكنه كان يفعل ذلك من أجل خلق جمهور لا يمكن ألا تروقه رواياته. وكم كان الأمر سيكون مؤسفا لو أن هذه الرواية لم تعجب الجمهور. تأملوا هذا النفاق وهذا الصفاء الذي يتحدث بهما عن 25 قارئا، وكان يريد 25 مليون قارئ. فمن هو القارئ النموذجي الذي كنت أرغب فيه وأنا أكتب؟ إنه قارئ متواطئ بكل تأكيد، يسايرني في لعبتي. كنت أود أن أصبح قروسطيا بشكل كلي، وأن أعيش القرون الوسطى كما لو أنها كانت مرحلتي (والعكس صحيح). وكنت في الآن نفسه أرغب بكل قوة في أن ترتسم أمامي ملامح قارئ يصبح، بعد تخطيه للحظة الاستئناس فريستي أو فريسة النص، ويظن أنه لا يرغب إلا فيما يقدمه النص. إن النص يريد أن يكون تجربة تحول لدى القارئ. إنك تعتقد أنك تريد الجنس ومؤامرات إجرامية يُكتشف في نهايتها المجرم، يُضاف إلى ذلك أحداث كثيرة، ولكنك في الآن نفسه تستحي من قبول بضاعة رخيصة آتية من «Fiacre n! 13» ومن Forgeron de la Court-Dieu»».

أما أنا فسأعطيك شيئا من اللاتينية، وشيئا من النساء وكثيرا من التيولوجيا ودماء كثيرة كما هو الشأن في Grand Guignol لتكتب بعد ذلك: «لا هذا ليس صحيحا، لا أريد أن أستمر في اللعبة»، حينها يجب أن أمتلكك، أن أجعل من بدنك يقشعر أمام جبروت الآلهة التي تحول نظام العالم إلى عبث. وبعد ذلك ستدرك، إن كنت ذكيا، كيف استدرجتك إلى هذا الفخ، وسأخبرك أنا في نهاية الأمر بذلك في كل خطوة، وأنبهك إلى أنني أقودك إلى العذاب. ولكن أليس جمال المواثيق مع الشيطان آتيا من كونك تُوَقع وأنت تدرك مع من تتعامل. وإلا فما جدوى أن نجازى بأن يزج بنا في جهنم.

وبما أنني أرغب في أن يكون الشيء الوحيد الرائع هو ذاك الذي يجعلك تقشعر، أي القشعريرة الميتافيزيقية، فلم يبق لي سوى أن أختار (من بين كل نماذج اللحمة) تلك التي تعتبر أكثر ميتافيزيقية وفلسفية أي الرواية البوليسية.

10. الميتافيزيقا البوليسية

وليس صدفة أن يبدأ الكتاب كما تبدأ الروايات البوليسية (وليس صدفة أيضا أن تخدع الرواية القارئ الساذج حتى النهاية لدرجة أنه لا يدرك بأن الأمر يتعلق برواية بوليسية حيث لا يُكتشَف أي شيء ولا يصل المحقق إلى أي شيء).

أعتقد أن الناس يحبون الروايات البوليسية، لا لأن فيها جرائم وأن النظام ينتصر في النهاية على النظام الخطأ (النظام الثقافي والاجتماعي والشرعي والأخلاقي). إذا كانت الرواية البوليسية تثير إعجاب الناس، فلأنها تمثل لقصة تخمين في حالتها الخالصة. ولكن ألا يمثل فحص طبي، أو بحث علمي أو تساؤل فلسفي حالات تخمين؟ إن مسألة الفلسفة الأساس، في واقع الأمر، هي نفسها في الرواية البوليسية (كما هو الحال أيضا في التحليل النفسي): من المسئول؟ من أجل معرفة ذلك (أو الاعتقاد في معرفة ذلك) يجب أن نفترض أن كل الوقائع يحكمها منطق، ذلك الذي فرضه عليها المتهم. فكل قصة بحث وتخمين تحكي لنا عن شيء يوجد بجانبنا باستمرار (وهذا يمثل ما يشبه استشهاد هايدغيري). وهذا ما يفسر بوضوح لماذا تتشعب القصة الأساس (من هو المجرم؟) إلى قصص أخرى كلها قصص لتخمينات، تتمحور كلها حول التخمين باعتباره كذلك.

إن العالم المجرد للتخمين هو المتاهة. وهناك ثلاثة أنواع من المتاهات: الأولى إغريقية إنها متاهة تيزي Thésée ( 24) ، وهي لا تبيح لأحد أن يضل. إنك تدخل وتصل إلى الوسط، ومن الوسط تتوجه إلى المخرج. وهذا ما يفسر أن في الوسط يوجد المينوتور minotaure (25) وإلا ستفقد القصة كل مذاق، وتتحول إلى مجرد نزهة من أجل الحفاظ على الصحة. هذا صحيح، ولكنك لا تعرف إلى أين ستصل ولا ما سيفعل المينوتور. وربما سيولد الرعب.

أما إذا قمتم ببسط المتاهة الكلاسيكية، فستجدون خيطا في أيديكم، خيط أريان (26). إن المتاهة الكلاسيكية هي خيط أريان وخيط الإنسان نفسه.

أما المتاهة الثانية فهي متاهة مصطنعة: إذا وضعتها بين يديك فإنك ستحصل على ما يشبه الشجرة، على بنية في شكل جذور بممرات مغلقة. لا وجود إلا لمخرج واحد ومن المحتمل أن تضلوا طريقكم. أنتم في حاجة إلى خيط أريان لكي لا تضلوا، إن هذه المتاهة هي نموذج من سيرورة المحاولة والخطأ. وهناك في الختام الشبكة أو ما يسميه دولوز وغاتاري بـ الجذمور Rhizome (27)... والجذمور مصنوع بكيفية تجعل من كل سبيل قابلا لأن يرتبط بسبيل آخر. فلا وسط له، ولا محيط أيضا ولا مخرج له، لأنه افتراض غير نهائي. إن فضاء التخمين فضاء يشبه الجذمور. إن متاهة المكتبة التي تصورتها هي متاهة مصطنعة، ولكن العالم الذي يدرك فيه غيوم أنه حي مبني على شكل جذمور: إنه قابل للبنينة ولكنه ليس مبنينا بشكل نهائي أبدا

العدد 3152 - الأحد 24 أبريل 2011م الموافق 21 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً