تم الإعداد لاستقبال الابن الضائع بإعادة دهان غرفته وتغيير اثاثها. وحين يتم الإفراج عن مراد كورناز من معتقل غوانتنامو في الأسابيع المقبلة، كما يتوقع وزير الداخلية الألماني فولفجانج شويبلي تريد أسرته أن يشعر بالحرية التي حرم منها طيلة السنوات الماضية. وقالت أمه ربيعة انها تقبل صورته كل يوم وتصلي من أجله ومنذ أن أعرب وزير الداخلية الألماني عن احتمال الإفراج عن الشاب التركي الذي يقيم مع أسرته في ألمانيا منذ سنوات طويلة، تحمل والدته الهاتف النقال بيدها على مدى 24 ساعة بانتظار سماع أسعد نبأ في حياتها بالإفراج عن ولدها. خلال فترة الاعتقال لم تعرف أسرة مراد شيئا عن الابن الضائع أكثر مما تشيعه وسائل الإعلام وتقارير منظمة العفو الدولية عن الأوضاع المزرية للمعتقلين في السجن الذي أقامته الولايات المتحدة على أرض استأجرتها منذ عقود من كوبا.
كلما شاهدت ربيعة كورناز صورا لمعتقلي غوانتنامو بلباسهم البرتقالي مقيدي الأيدي وعلى أفواههم كمامات مثل التي تستخدم لمنع الكلاب من العض تنفجر باكية وتبدأ تنادي باسم ابنها. في الفترة الأخيرة ساءت صحتها وأصبحت تشكو من ضيق في النفس. انه مرض غوانتنامو حسبما قالت لها إحدى الصحافيات. نقص وزن الأم وتجهش بالبكاء كلما أعدت أكلة محببة عند ابنها لأنها سمعت أن أفضل وجبة يحصل عليها المعتقلون في غوانتنامو هي الكورن فليكس.
في الأسابيع القليلة المقبلة قد يتم الإفراج عن أول معتقل من ألمانيا في غوانتنامو وهذا يكفي لتستنفر الدوائر السياسية والمخابراتية في ألمانيا لأن الإفراج عن مراد كورناز يقلق مضجع برلين. وكشفت مجلة «دير شبيغل» في عددها الأخير عن مفاوضات يجريها الدبلوماسي الألماني كلاوس بيتر جوتفالد مع الحكومة الأميركية لبحث تفاصيل عملية الإفراج عن كورناز. يرمي ما يسمى الحوار الأطلسي الذي يستخدمه الدبلوماسيون لبحث ضمانات أمنية وكيفية تنفيذها. وسيقوم سلاح الجو الألماني بنقل كورناز من المعتقل لأن الحكومة الأميركية لن تسمح من ناحية المبدأ سفر معتقلين من غوانتنامو إلى مطارات أميركية وكل ما ستقوم به الولايات المتحدة عند الإفراج عن كورناز هو تزويده بقميص تي شيرت وسروال جينز قبل أن يحصل على حريته وهذا شيء قليل لشخص أمضى سنوات في الاعتقال من دون محاكمة ومن دون الشعور بأنه إنسان له حقوق كسواه من البشر.
حين تستعد طائرة السلاح الجوي الألماني لرحلة العودة من المحيط الكاريبي ستظهر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمام ممثلي وسائل الإعلام لتعلن نبأ الإفراج عن كونارز وستشيد بها الصحف الألمانية في اليوم التالي. إذ إن ميركل هي التي أثارت موضوع الشاب التركي الألماني مع الحكومة الأميركية. في يناير/ كانون الثاني الماضي حين زارت المستشارة واشنطن لأول مرة بعد انتخابها في منصبها عرضت موضوع كورناز على الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش خلال المفاوضات التي تمت وراء أبواب موصدة بعد خروج المصورين. ونقل عن عضو في الوفد الألماني حينها أن بوش تعمد تجاهل سماع شكوى ميركل لأنه يؤمن أن المعتقلين في غوانتنامو لا يستحقون أن يدافع عنهم أو يتدخل من أجل الإفراج عنهم. وكانت ميركل قبل سفرها قد نصحت الولايات المتحدة بإغلاق معتقل غوانتنامو وقالت إن مؤسسة مثلها ينبغي ألا تظل موجودة لأنها تسيء إلى سمعة الولايات المتحدة. وقبل أن عادت ميركل إلى بلدها كلفت السفارة الألمانية في العاصمة الأميركية متابعة موضوع كورناز والتركيز لهدف الإفراج عن الشاب التركي الألماني.
ما من شك أن الإفراج عن كورناز الذي مازال يحمل الجنسية التركية سيكون انتصارا دبلوماسيا كبيرا للمستشارة الألمانية وفي الوقت نفسه هزيمة معنوية وسياسية لوزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير بوصفه كان يشغل منصب وزير المستشارية في عهد المستشار السابق غيرهارد شرودر وأيضا هزيمة للحكومة التركية التي لم تسع لطلب الإفراج عن مواطنها. كما سيشعر رئيس المخابرات الألمانية السابق أوجوست هانينغ بالحرج لأن وسائل الإعلام الألمانية حصلت على معلومات كانت الحكومة السابقة تتحفظ عليها وتعتبرها سرية للغاية، أفادت أن حكومة شرودر/ فيشر حصلت في نهاية العام 2002 على فرصة كبيرة لتتدخل من أجل الإفراج عن مراد كورناز حين عرض الأميركان الإفراج عنه لكن الجانب الألماني تجاهل العرض وسعى لتعطيل حصول كورناز على الحرية بحجة أنه سيشكل معضلة أمنية لألمانيا. في القريب ستباشر لجنة تحقيق تابعة للبرلمان الألماني (بوندستاغ) النظر في الشكوى المرفوعة ضد الحكومة وسيجري طرح الافتراض التالي بأن كورناز جلس كل هذه الفترة الطويلة التي تلت نهاية العام 2002 في غوانتنامو فقط لأن السلطات الألمانية لم تهتم بمصيره ورفضت استعادته مثلما يرفض زبون تسلم طرد بريدي. هل لأنه تركي وليس ألمانياً بالدم؟ علما بأنه كسائر المعتقلين متهم بالانتماء لـ (القاعدة) لكن لم يحاكم ولم يثبت الاتهام ضده ولم يذكره أسامة بن لادن أو نائبه أيمن الظواهري بكلمة واحدة في رسائلهما الصورية والصوتية. وستناقش لجنة التحقيق البرلمانية التي ينتمي أعضاؤها لجميع الأحزاب الممثلة في البرلمان سبب اللعبة المزدوجة التي لعبتها السلطات الألمانية وتحججها بدواعي أمنية لمجرد الاشتباه من دون وجود أدلة وذلك على حساب حرية كورناز الذي يعيش في مدينة بريمن شمال ألمانيا والذي قضى في الغضون خمس سنوات عمره ظلما في جحرة سوداء على حد تعبير محاميه الألماني برنهارد دوكي وكما يرى محققون ألمان أيضا.
لأن كورناز لا يحمل الجنسية الألمانية ليس الحكومة الألمانية مجبرة على الاهتمام بقضيته لكن قضيته اكتسبت أهمية منذ البداية وتحديدا في التاسع من يناير العام 2002 حين بعثت المخابرات الألمانية رسالة إلى مقر المستشار شرودر جاء فيها أن شابا تركيا يعيش في مدينة بريمن ألقي القبض عليه في قندهار أفغانستان. منذ ذلك اليوم تبلغ وزير الخارجية الحالي شتاينماير بالقضية وبدأ نقاش عن إمكان سفر عملاء تابعين للجهاز الألماني على غوانتنامو ليكونوا حاضرين عند وصوله من قندهار. بتاريخ 31 يناير سافر المستشار شرودر إلى واشنطن وبجعبته ملف القضية لعرضه على بوش والطلب منه الإفراج عن الشاب التركي لكن في آخر لحظة تم صرف النظر عن مفاتحة بوش بهذه القضية خشية تعكير صفو العلاقات الألمانية الأميركية (من دون سبب)، كما قيل حينها. وقال شرودر انه متأكد أن الولايات المتحدة ستلتزم بالقوانين الدولية حيال معتقلي غوانتنامو.
كما أن وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر الذي وعد عند تسلمه منصبه بوضع حقوق الإنسان ضمن أولويات السياسة الخارجية الألمانية سكت على القضية بعد أن صرح أنه عازم على إيفاد دبلوماسي ألماني لتفقد وضع كورناز في معتقل غوانتنامو. ثم أبلغت السفارة الأميركية في برلين فيشر أن الحكومة الأميركية ستقوم بتقديم المعلومات التي تملكها عن المعتقلين إلى حكومات دولهم وفي حال كورناز إلى الحكومة التركية.
رأت وزارة الخارجية الألمانية أنه تم استبعادها عن اللعبة. وفي سبتمبر/ أيلول 2002 توجه وفد ألماني إلى غوانتنامو برفقة موظف السي آي أيه في سفارة واشنطن في برلين واستقبل كورناز الألمان كأصدقاء وكان متعاونا معهم، كما قال أعضاء الوفد وقال لهم انه لا يستحق أن يكون في هذا المكان وأنه ليس مذنباً علاوة أنه يتعرض لمعاملة سيئة وسجل الألمان كلامه من دون التعليق عليه. ضمن الوفد جلس رجل السي آي أيه الذي يجيد اللغة الألمانية وسجل بدوره كلام كورناز من دون أن ينبت ببنت شفة وفي النهاية قال ما ذكره كورناز كان بالنسبة إلى اسي آي أيه بلا قيمة. الخطأ الذي وقع به كورناز أنه كان في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. بعد انتصار تحالف الشمال على الطالبان راح لوردات الحرب يبيعون المواطنين الأجانب (5 آلاف دولار للفرد) بوصفهم مرتزقة وتسليمهم إلى السي آي أيه. وفي تقرير الوفد الألماني الذي استجوب كورناز في غوانتنامو جاء أنه الشاب لا ينتمي لـ (القاعدة) ولا لتنظيم إرهابي آخر. كما أنه لا يشكل أي خطر على مصالح ألمانية أو أميركية أو إسرائيلية.
بالنسبة إلى الحكومة التركية التي لم تبذل أي جهد للإفراج عن مواطنها فإنه ألماني لأنه يقيم في ألمانيا، كما أوحت الحكومة التركية للأميركيين أنها لا تريد الحصول عليه. عند مناقشة قضية كونارز في مقر المستشارية في نهاية العام 2002 جرى الحديث عن القلق من عودته واحتمال أن يكون لذلك اثر سلبي على أمن ألمانيا وكان الرأي إبعاده إلى تركيا. تبلغت السي آي أيه هذا الرأي ولم يصدق الأميركان كيف ترفض برلين استعادة الشاب التركي على رغم الفرصة التي وفروها لهم. ضاعت القضية وحين أعاد فيشر بحثها مع نظيره الأميركي كولين باول رد عليه أنه ليس المسئول عن معتقلي غوانتنامو وإنما وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الرجل الذي لا يعتبر معتقلي غوانتنامو حيوانات ناطقة
العدد 1303 - الجمعة 31 مارس 2006م الموافق 01 ربيع الاول 1427هـ