مواصلة للحوار مع الصحافي والمفكر الإستاذ وليد نويهض: في مرحلة الستينيات بدأت تنطلق شرارات الحرب الأهلية، فكيف عاصرت فترة الحرب المريرة؟
- عملياً انفجرت الحربة الأهلية اللبنانية في أبريل/ نيسان 1975 ولكن كانت هناك خطوات مهدت لهذا الانفجار، فانفجرت فكرة المقاومة الفلسطينية في الأردن في العام 1968 بعد هزيمة حزيران، واستمر الأردن الحاوي للمقاومة إلى سبتمبر/ أيلول 1970 عندما تم خطف الطائرات من قبل الجبهة الشعبية وتحول الوضع إلى حرب مدمرة بين الفصائل الفلسطينية في الأردن مع السلطات الأردنية.
وكانت هناك دعوة متسرعة من قبل عبد الناصر لقمة عربية طارئة وتوفي عبد الناصر في نهاية القمة وانتهى الموضوع بنوع من المصالحة غير الواضحة، ومن ثم انقلبت إلى مواجهة أخرى في العام 1971، بعدها أصبحت المقاومة الفلسطينية خارج الأردن فانتقلت إلى لبنان في العام 1972.
وكيف تعامل اللبنانيون مع الضيف الكبير «المقاومة الفلسطينية»؟
- لقد استقبل اللبنانيون المقاومة استقبال الأبطال ولكنهم لم يدركوا أن هذه القوة الإضافية ستترك أثرها على بلدٍ هشٍ في التوازنات الطائفية، فكانت المسألة الطائفية غائبة عن الذهن، ونحن أيضاً لم ندرك أن الوضع المسلح في لبنان سيترك تداعيات على مستوى النسيج الأهلي الاجتماعي، فبدأت الانقسامات، فأخذت ذلك الطابع الطائفي إلى مسلم ومسيحي، وأخذت تتطور شيئاً فشيئاً، فلم ندرك هذه المسألة إلا متأخرين وبعد فوات الأوان.
هل أصبح الفلسطينيون «ضيفاً ثقيلاً» على الساحة اللبنانية لاحقاً؟
- نحن لم ننتبه إلى أن لبنان الضعيف الهش في توازناته الطائفية لا يستطيع تحمل هذا الثقل الإضافي الكبير أو هذا الفائض من القوة، وبالتالي مع الأيام تحول لبنان إلى جبهة عسكرية، وأصبحت هناك معاركة يومية في الجنوب، بينما الوضع العربي دخل إلى نوع من الثبات والصمت وأصبح لبنان الهادئ وتلك الواحة التي تحدثنا عنها أصبحت الآن البؤرة الثورية الوحيدة المتفجرة في الشرق الأوسط.
ومع الأيام بدأ هذا البلد يدخل في دائرة الاستقطاب الأهلي وأدى ذلك إلى بناء أكثر من معسكر. فهناك معسكر لا يريد المقاومة وآخر يريد تجميد أعمالها لتكون جزءاً من السلطة اللبنانية، وهناك معسكر ثالث يعتبر أن لبنان لا بد أن يكون جبهة مفتوحة وأن يتحول إلى رأس الحربة في مواجهة إسرائيل.
وطبعاً هذا التحليل يحتاج الآن إلى إعادة قراءة ويحتاج إلى تصويب، والسبب أن المسألة يجب أن تؤخذ في إطارها الزمني، فآنذاك لم نكن ندرك أن الضغط الهائل على هذا البلد الصغير سيؤدي إلى انفجار داخلي كبير.
ومع الأيام أخذت المسائل تتطور من الإيجاب إلى السلب إلى أن حصل الحادث الكبير الذي أطلقنا عليه «بوسطة عين الرمانة» أو (حادثة الركاب) في 13 أبريل / نيسان 1975 وكانت تلك النقطة التي فاض الكأس بعدها وانفجرت الحرب الأهلية.
لنتوقف على المستوى الأسري... ما سبب انتقال العائلة إلى بيروت؟
- أولاً أنا من عائلة من جبل لبنان، من منطقة المتن الجنوبي (قضاء بعبدا)، وجدّي كان مهاجراً إلى أميركا الجنوبية ومن ثم هاجر إلى أميركا الشمالية وهناك عمل وجمع في أيامه ثروة مالية وعلى أساسها عاد إلى لبنان وكان إلى حد ما وبسبب وضعه المتقدم اجتماعياً أتيحت له فرصة تأسيس عائلة جديدة، وأصبح من ملاك الأراضي ومن الفئات الميسورة اجتماعياً وهذا ما أعطى للعائلة فرصة للاستقلالية عن الحاجة إلى أحدٍ من الزعماء للتوظيف في الإدارة الرسمية أو غيرها.
هل حماها ذلك من المال السياسي؟
- نعم حماها من المال السياسي، فقد ساهم هذا الجد في إحداث نقطة انعطاف كبيرة في العائلة، وكان يعتبر أن العلم هو الأساس وأن الشهادة هي قوة اجتماعية تغنيك عن الحاجة لهذا البيت أو الباشا أو ذاك الزعيم حتى يساعدك، وبالتالي بدأت العائلة بالتحرر من الضغط أو الكلفة الاجتماعية باعتبار أن هناك عائلاً قادراً على تغطية النفقات المالية. فهنا تعلم والدي وذهب إلى المدارس الحديثة وتعلم الفرنسية ولغات أخرى أيضاً، ومن ثم هاجر إلى إفريقيا، فالسفر هو عادة لبنانية، ومكث والدي في إفريقيا 4 سنوات، ومن ثم عاد إلى لبنان وهاجر إلى فنزويلا في أميركا اللاتينية.
في تلك الفترة كانت بيروت هي المركز الحقيقي، وعندما تنهي الدراسة التكميلية وتريد الدخول إلى الدراسة الثانوية والجامعية لاحقاً لا بد أن تجد لك ذلك المكان المناسب، فمن ناحية تعليم الأولاد، مدارس بيروت تعتبر الأفضل، لذلك قررت العائلة النزوح إلى بيروت لسببين: السبب الأول هو الرغبة في تعليم الأولاد في مدارس معقولة، وثانياً أبي كان يمارس التجارة، وظروف المدينة أفضل من ظروف القرى في الجبل (جبل لبنان)، وعشنا في تلك الفترة أفضل الحالات وكانت بيروت فعلاً في عصرها الذهبي وصرنا جزءاً من النسيج.
ما الفارق بين قضاء بعبدا وبيروت بالنسبة لك كطفل؟
- لم يعد هناك الفارق الكبير الآن، ولكن سابقاً انتقلت كطفل من دائرة العزلة ومنطقة الانكفاء والعائلات المحدودة في القرية، من حلقة المجتمع المغلق إلى المجتمع المفتوح في عصره الذهبي، فكانت المدارس المختلفة، والتركيب الاجتماعي للطلبة من ألوان وأديان ومذاهب وطوائف ومناطق ولهجات مختلفة، وبالتالي كان هذا بداية التعرف إلى أسماء وإلى لهجات وأيضاً إلى طوائف ومذاهب وديانات ليست بالضرورة أن تكون متوافرة في القرية.
فبيروت مثلت المصب لكل المناطق اللبنانية، ولكنك تجد في بيروت من الشمال والبقاع والشرق والجنوب وجبل لبنان، فكانت بيروت مدينة التنوع ولا تجد تنوع بيروت في غيرها،.وربما هذا ما أعطاني فرصة التعرف على الآخر وبناء علاقات خاصة مع مختلف الفئات تلك الجسور والعلاقات ليس بالضرورة أن تكون ممتازة دائماً، ولكن على الأقل أعطتنا فرصة للتعرف عن المختلف، وهذه نقطة مهمة، وهذه بالنهاية أهمية المدن، إنها تمثل ذلك الوعاء الذي يصهر أو على الأقل يمكن في المستقبل أن يصهر الجماعات الأهلية في وحدة اجتماعية متجانسة. وللأسف بيروت فشلت في هذه المهمة بسبب الحرب الأهلية ولكن على الأقل نجحت في تشكيل ذلك الوعاء.
ما الذي كان عالقاً من جمال بيروت في تلك الفترة؟
- كانت بيروت على المستوى الثقافي مزدهرة للغاية، فكانت يومياً تشهد فعاليات ثقافية، وندوات ومعارض ومن يهتم يكسب الكثير، وكانت بيروت عاصمة الكتاب العربي ومطبعة الدول العربية، وكانت 70 في المئة من الكتب تطبع في بيروت ويعاد تصديرها إلى الدول العربية. وبيروت كانت تعني صالات السينما والفن السابع، وكانت بيروت تتمثل في ذروة العطاء الأكاديمي المتقدم، ففي الجامعة الأميركية والجامعة العربية والجامعة اليسوعية كان يوجد خيرة الطلبة العرب من كل الدول العربية الذين يأتون إلى بيروت لتحصيل شهاداتهم الأكاديمة، وهذه فرصة للتعرف على الكثير من الروافد العربية.
ما أبرز تلك الأسماء العربية عموماً والبحرينية خصوصاً التي تعرفت عليها حينها؟
- هناك الكثير من الأسماء مثل أدونيس وصداقتنا معه كانت جيدة، وكان إلياس مرقص هذا المفكر الكبير الذي جاء من سورية، وهناك الكثير من الأدباء والشعراء الذين جاءوا من فلسطين ومن العراق، وكذلك على المستوى البحريني كانت بداية تعارفي على الكثير من الشخصيات في بيروت مثل عبدالرحمن النعيمي وعبدالنبي العكري وغيرهما والعشرات من الشخصيات والمفكرين والكتاب والناشطين من مصر وتونس وهناك أعلام بارزة أصبحت لاحقاً، والكثير من اللاجئين السياسيين في بيروت أصبحوا وزراء ونواباً وأسماءً لامعة في مصر والبحرين والأردن وليبيا وتونس والسودان.
وهل هاجرت مع العائلة حينما هاجر الوالد؟
- كلا، أنا لم أهاجر مع والدي إلى فنزويلا، ولذلك في الفترة الأولى من طفولتي أشرف جدي وجدتي وعمي وعماتي على تربيتي، وعادت الوالدة ومن ثم جاء الوالد إلى بيروت، أما على المستوى الفردي فقد بدأت الهجرة الشخصية في العام 1984 بعد أن تحملت قسوة الحرب الأهلية لعدة سنوات.
هل من إطلالة على حصيلتك المعرفية من المؤلفات المتنوعة التي غطت مختلف حقول المعرفة من الفلسفة إلى السياسة؟
- لقد ألفت 16 كتاباً، الكتاب الأول كتبته عن لبنان في العام 1976، وحمل عنوان «نقد الفكرة اللبنانية»، وكان انفجار الحرب الأهلية الدافع الأساسي للبحث عن أسباب الأزمة، واكتشفت أن هناك ما يسمى الفلسفة اللبنانية التي تحاول أن تبرر بعض الجوانب الآيديولوجية في السياسة اللبنانية، وهي موجودة في كتابات نشرت في العشرينات حتى الستينات، وأعيد إنتاجها في فترة الحرب في السبعينات، وقمت بقراءتها ونقدها.
والكتاب الثاني كان: «الحركات السرية في التاريخ الإسلامي»، فعملي ونشاطي الحزبي سابقاً كان الدافع الأساسي للبحث عن النشأة الفكرية الحزبية في التاريخ الإسلامي، وبحكم دراستي الأكاديمية لمادة التاريخ استفذت من قراءاتي التاريخية وعالجتها في كتيب عن الحركات السرية في التاريخ الإسلامي، وهكذا بدأنا في تلك الفترة، فالكتاب الأول صدر في العام 1976.
واستمر العمل الكتابي، فكان الكتاب الثاني والثالث الذي أطلقت عليه «السلطة والحزب» وعالجت فيه الفكرة الماركسية باعتباري كنت أنتمي إلى هذا الوعاء وعندما خرجت من الوعاء، كما قلت لك إن السبب هو الغزو السوفياتي والثورة الإسلامية في إيران، فهذان الحدثان حركا في وجداني الكثير من الأسئلة، وخرجت عن المنظومة الماركسية وكتبت هذا الكتاب وصدر في العام 1986 قبل سقوط الاتحاد السوفياتي.
ومن وجهة نظري فإن أهميته الكبرى كانت في التوقيت قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، لأن الكثير من الكتب صدرت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومعظمهم يقولون إننا توقعنا هذا الحدث، ولكنه كان زعماً، فإذا كانوا توقعوا هذا الحدث لماذا لم يخرجوا من عباءة الاتحاد السوفياتي، أما هذا الكتاب فأهميته الأساسية تكمن في التوقيت حين صدر قبل سقوط الاتحاد السوفياتي بخمس أو ست سنوات. وهذه نقطة ارتحت لها كثيراً باعتبارها نوعاً من تبرئة الذمة إن صح التعبير.
في مطلع الستينات عاد الوالد من الاغتراب. وبدأ الطفل الصغير رحلة جديدة في عالمي السياسة والقراءة. فالوالدة انتبهت إلى أن ابنها يحب القراءة فهو يأخذ الخرجية (المصروف اليومي) ويشتري بها مجلات فنية (الشبكة، السينما والعجائب، الموعد) وقصص غرامية ومغامرات بوليسية (أرسين لوبين، شارلوك هولمز) وصحفاً سياسية وأحياناً طوابع بريد. وخوفاً من انحرافه نحو أدبيات سيئة أو غير مفيدة قرر الوالد شراء كمية من الكتب الراقية والنوعية بقصد تنبيه الابن وإرشاده إلى الصواب.
شكلت تلك الكتب التي ضمت مؤلفات أو مجموعات جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، جورج مصروعة، سعيد تقي الدين، مارون عبود... إضافة إلى متفرقات من دواوين شعر وروايات مترجمة ومنشورات سياسية واقتصادية خطوة مهمة للتقدم نحو عالم السياسة، كذلك شجعت على التفكير بتأسيس مكتبة خاصة أخذت تتسع وتكبر وتتنوع وتتبدل مع الأيام.
وليد نويهض
العدد 3419 - الإثنين 16 يناير 2012م الموافق 22 صفر 1433هـ
نويهض قامة كبيرة
وليد نويهض قامة أدبية و سياسية و صحفية فارعة و قامة لا يستهان به ..
نتمنى رجوعه للوسط ولا عزاء للحاقدين
الان في البحرين اي الكتب موجود
نسئل الوسط الان في البحرين اي الكتب موجودة للكاتب