في الحلقة الأولى من هذا المقال تحدثنا عن بعض أنواع العنف السينمائي والتلفزيوني وعن الكيفية التي يؤثر بها على مشاهديه. استعرضنا كذلك كيف يمكن للعنف أن يتسرب الى عقول المتفرجين ونفوسهم من دون أن يشعروا هم بذلك، وكيف يمكن لجهات كثيرة استغلاله لتحقيق غايات معينة. اليوم نواصل الحديث بشأن مزيد من تلك الجهات والأطراف التي تستغل العنف التلفزيوني والسينمائي لتحقيق غاياتها وأهدافها.
السياسيون من بين تلك الجهات وجنرالات الحرب في كل مكان، أولئك الذين يغرقونا بأحاديث عما يسمى بالضرر غير المباشر لكثير من سياساتهم، فقط ليفصلوا بين سياساتهم ونتائجها، وليخلوا مسئوليتهم من تشريد وقتل الأبرياء في كل مكان كنتيجة لهذه السياسات.
هؤلاء الساسة والجنرالات يلجأون، في بعض الأحيان، للأفلام الدرامية والتاريخية، ليمارسوا ضدنا نوعاً آخر من العنف حين يجندون أشخاصاً يعملون على نقل الحوادث التاريخية من وجهة نظر هذه القوة. هؤلاء السينمائيون والاعلاميون يصفون ما ألحقه ذلك الطرف الأقوى من قتل وتشريد وتنكيل بالطرف الأضعف، بالانتصار، في حين ان ما حدث أكبر بكثير من ذلك.
رايفنستال ورسائلها النازية
ولعل أشهر هؤلاء المخرجة الألمانية ليني رايفنستال التي كانت تروج للنازية عبر مختلف أفلامها. رايفنستال التي توفيت في العام 2003، كانت تزعم، على الدوام، أن أفلامها ليست سوى سجلات توثيقية للحكم النازي في نورمبيرغ، وذلك على رغم من وضوح ترويجها للنظام النازي، وتغافلها المفضوح لجرائم قادته.
أفلام هوليوود الأميركية تفعل الأمر ذاته الآن حين تحاول عبر مختلف أفلامها الدرامية، أو التاريخية، أو الأكشن، أو حتى أفلام الرعب أو الخيال العلمي، أن تروج لإمبراطورية بلادها. هذا، على رغم أن صانعيها يعلمون جيدا مقدار الضرر وحجم الدمار الذي تسببه سياسات بلادهم الغاشمة في مختلف دول العالم.
بالطبع لا تنطلي أوهام هوليوود على كثير من متابعيها، كما لم يمكن لأي أحد أن يصدق ما نقلته رايفنستال عبر جميع أفلامها. صحيح أنها وثقت بعض الحوادث التاريخية، وهي مفيدة لمن يريد معرفة حقيقة الحلفاء التاريخية. لكنه من الصحيح أيضاً بأن مشاهدة أفلامها كفيلم The Triumph of the Will لفترات طويلة، قد تطرب بعض المتفرجين ليبدأوا في الرقص على إيقاعات قرع الطبول والاستعراضات العسكرية فيه.
الفيلم، كما هي كثير من أفلام هوليوود اليوم، يحمل ذلك النوع من التأثير والقوة اللتين تجعلان المتفرج جزءاً من الصورة بأكملها، وتخلقان بداخله رغبة ولو لحظية لأن يكون هناك مع أولئك الجنود، يرتدي الزي نفسه، ليتوحد مع تلك القوة ويصبح جزءاً منها، وهذا هو بالضبط معنى الدعاية الاعلامية، التي لم تجد وسيلة أقوى لها من أفلام السينما.
بالطبع منعت رايفنستال بعدها من تقديم المزيد من الأفلام على الأخص حين صعقت الدول المنتصرة على ألمانيا بتفسيرها السينمائي لمفهوم النازية الذي قدمته في أحد أفلامها في العام 1945. حين بدا فيلمها وكأنه محاولة لاقناع المتفرجين بالانضمام لحزبها المندحر، ولو كان ذلك عبر المشاركة في استعراضات جنوده.
السؤال المطروح هنا هل يمكن أن تخضع مثل هذه الأفلام لرقابة من نوع ما؟ وهل كان يجب أن يحدث ذلك في الثلاثينات، وحين كانت الرقابة قد تغني عن الحاجة لأي تدخل عسكري؟
تصنيفات الأفلام وتعزيز العنف
نعود الى المستوى الأسري وتأثيرات أفلام العنف التي تملأ شاشاتنا، ما الذي يمكن عمله لمواجهة شغف أبنائنا للتفرج على مشاهد العنف، وهي المشاهد التي قد يعيد بعضهم تقديمها في تعاملاتهم الحياتية مع الآخرين سواء داخل الأسرة أو خارجها؟
هل يمكننا التراجع الى الوراء ووضع بعض الاسئلة عن تأثيرات ومساهمات المحيط الاجتماعي والسياسي في تعزيز هذا الميل وفي تقوية مفاهيم اعتبار التفرج على أفلام أو ألعاب العنف واعتبارها نوعاً من التسلية.
وهل يمكن أن يغنينا التصنيف الذي تتبعه مختلف شركات الانتاج والعروض السينمائية عن فرض رقابة على ابنائنا. لنلق نظرة على الوضع في أميركا مثلاً، هناك تبدو عملية تصنيف الأفلام معززة لهذه العملية الى حد كبير، فالفيلم الذي يحمل تصنيف R مثلاً يعني أن الأطفال من أي عمر يمكنهم أن يشاهدوه، ما دام والوالدان أو المسئولون عنهم أو حتى من يدعون ذلك، متواجدين معهم. هذا يعني أن الطفل الأميركي البالغ من العمر 3 أو 4 أعوام يمكنه الذهاب الى السينما لمشاهدة، لنقل مثلاً فيلم صمت الحملان The Silence of the Lambs بكل العنف الموجود فيه، أو أي فيلم آخر يستعرض العنف بالحدود التي تصل إليها خيالات صانعيه.
أطفال البحرين الأسعد حظاً
الطفل البحريني هو الآخر يبدو وكأنه قادر على مشاهدة كثير من الأفلام التي تناسب سنه او التي لا تتناسب معه. بل يبدو أن البحريني أسعد حظا من الأميركي فنظام التصنيف المعمول به هنا لا يبدو ذا أهمية تذكر في دور السينما لدينا. إذ وحتى لو كان الفيلم يحمل تصنيف 18 فهذا لا يعني ألا يتمكن فتى لا يتجاوز 13 من عمره الدخول مع شلة من أصدقائه ومشاهدة العرض، وهو الذي اعطته معظم دول العالم درجة 18 أو 16 في أحسن الأحوال.
لماذا يحدث هذا؟ هل لأن تجارة الأفلام شرهة وطماعة وتسعى لبيع أكبر عدد ممكن من التذاكر، للدرجة التي تجعلها تسمح للأطفال الصغار دخول عروض أفلام لا تتناسب مع أعمارهم. ربما يكون ذلك اتهاماً مجحفاً، لكن لا يمكن لتلك المؤسسات، بأي حال من الأحوال، إخلاء مسئوليتها بزعمها أن تلك مسئولية المشاهدين وقرارهم، لأن المتفرجين العاديين على الأخص الأطفال منهم لا يقدرون في كثير من الأحيان مدى سوء أي فيلم، أو عمق تأثيره عليهم
العدد 1426 - الثلثاء 01 أغسطس 2006م الموافق 06 رجب 1427هـ