العدد 1434 - الأربعاء 09 أغسطس 2006م الموافق 14 رجب 1427هـ

قانا... الأنثى جداً

كان غيلان الدمشقي (ق2هـ) يسير في شوارع بغداد ويقول: «ما أتاكم من خير فمن الله ومن أنفسكم وما أتاكم من شرّ فمن بني العباس»... غيلان الدمشقي هذا ذُبح يوم العيد... يقول الطبري واصفاً عمليّة ذبْحه «وخطب (أي والي بغداد) خطبة العيد... وقال أما أنتم فاذهبوا إلى أضحياتكم وأحسنوا التذكية، ولا تُرُوا الشاة السكين، وأما أنا فآليت على نفسي ألاّ أضحِّيَ إلاّ بغيلان، وحزّه من الوريد إلى الوريد».

ومازال بنو العباس بيننا عراةً بوجوهٍ مكرَّرةٍ على واجهات الشوارع العربية المطليِّة بالبياض وشِعارات الجيش الوطني. مازالوا هنا، ومازال غيلان يُحزُّ من الوريد إلى الوريد... ويقول: «ما أتاكم من شرّ فمن بني العباس»...

والشرّ سجن، والشر صحف صفراء، والشرّ مجلس دار الندوة على ضفاف النيل توسّعت أرائكها لأن مقاس خاصرة المندوب قد توسّع. اجلس واصمت أيها العبّاسي على أريكتك ولا تتكلّم حفظا للأريكة من وسخ الكلام وحفظا لنا مما يمكن أن يكون من نواقض الوضوء.

اصمت فقد زأر الجنوب في الليل البهيم... زأر الجنوب والمندوب «بهيم»... زأر الجنوب فاسمع وأطِع وقل لجانبيك أن يبحثا في مخادعِك عن... بقايا فتوى أو بقايا بَشَر. اصمت وتأنّث يا أنثى التاريخ الذكوري. اصمت وأعدّ حنّاءك للَّيلة القادمة واترُك أولئك، فخضابهم دماء...

الحرثُ حرثٌ و إن بادت معالمُه

مــن قــلبِ أرضٍ في أحشـائها اللَّـهَبُ

زأر الجنوب فأَخرَس صوت مغتصب

وملوك ناس وما هم نـاسنا الشهبُ

نطق الجنوب... وفي الجنوب صور... نطق الجنوب وفي الجنوب عِبر... فأيّهُم أخرس الآخرَ جنوبٌ جريحٌ يردّد أغانيه للعابرين... أم قصر كقبر... أو... قل قصر كرقص... كان يمكن أن يكون قصراً كصقر باشتقاق الحرف من الحرف والدم من الدم... لكن للجنوب أبجدية أخرى... قد تَعوي فيها الحروف ليلاً وتقول: «وطني قصري فإن راح...! فوطني قبري!»

«ما أتاكم من خير فمن أنفسكم...»

وقانا نجمة أخرى... وقانا أيقونة أخرى.. دِمنة أخرى وما أكثرها دِمن... لكنها ستظلّ قصيدة أخرى قوافيها لعبةٌ آنسَت طفلاً الليل كلّه وفي الصباح استفاقت اللعبةُ قبل الطفلِ... فهل تصدّقون...؟ ورويُّ القصيدة خصلةٌ شعر باتت اللَّيلَ تلك البنتُ تربِّيها... وفي الصباح زُفّت البنت عروسا... فهل تزغردون...؟

قانا... كانت قصيدةً أخرى صارت معلّقة أخرى... قانا اسم مبني ممنوع من الصرف وسيظلّ اسماً مبنياً ممنوعاً من الهدم... قانا صوت الليل كلّه على شفة صبي... يقول:

قانا... قصيدة... أنثى

أنثى جدّا

بكمّ الليل جاءت

تشدّ العهد عهدا...

وأسوار الكلام...!

بكمِّ اللَّيلِ جاءت

تخطّ الدرب دربا...

بأصوات الحمام...!

بكمِّ اللَّيل جاءت

تقدّ الوعدَ وعدًا...

وأسفار الزمان...!

... ثمّ نزل العباسيون من هضبة التاريخ... وجاء بعدَهم مَن اعتلى التاريخَ غصْبا... المماليك... وكان في ذلك الزمان رجل يسمى العزّ بن عبدالسلام فقيه مصر... رفض حكمهم وقاس إمامة الناس على إمامة الصلاة فبطُل حكم المماليك شرعا، إلاَّ أنْ يُعتَقُوا باعتبارهم مماليك... وكان الحلُّ في أن يباعوا ويُحرَّرُوا... ورضيَ المماليكُ بأن يُباعوا.. فكان يُنادى في أسواق القاهرة والشام «أميرٌ للبيع»... وبِيعَ المماليكُ ولايزالون...

قانا... وسوق المماليك الجديدة تنتصب خلفها... وقانا تبيع وتشتري... أموالُها نمَت فقد ربِحت صفقة جديدة من الشهداء والأوفياء... فقد حلبت مرتين... مرّة حينما كانت الأرض عاقرا... ومرّة حينما سأل الناس عن اسمها... حلبت مرّتين وولدت مرّتين... زغردي قانا فمخاض عسير... ومن كان مثل قانا حُقَّ له أن يشتري ويبيع مماليك دار الندوة كلّهم على ضفاف النيل... كما تباع نساء حيّنا وأندلس.. .على ضفاف النيل... لكن «للنيل عاداتٌ» وسِجِلٌّ... ولقانا قولها الفصلُ... فهل من أمير للبيع... يا قانا... كي نشتر

حسن مرزوقي

العدد 1434 - الأربعاء 09 أغسطس 2006م الموافق 14 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً