تشهد منطقة الشرق الأوسط حالياً تحوّلات اجتماعية جمة حيث تصبو شعوبها إلى حياة أرقى، بما في ذلك التمتّع بصحة أفضل. لذا، تحاول الحكومات تلبية هذه الحاجة في وقت ينمو فيه عدد سكانها بسرعة ويصابون أكثر فأكثر بأمراض مرتبطة بنمط الحياة مثل مرض السكري وأمراض القلب. وفي الوقت نفسه، تتسبب التكلفة المتزايدة للأدوية الأكثر فعالية والتكنولوجيا الحديثة في زيادة الضغوط المالية على نظم الرعاية الصحية.
وفي هذا الصدد، صرح مدير أول في شركة بوز أند كومباني جاد بيطار، قائلاً: «في مواجهة العوائق التي تحول دون تغيير كهذا في قطاع الصحة، يتعين على الحكومات إعادة النظر في نهجها المتبع لتوفير الرعاية الصحية، فعوضاً عن معالجة المرضى فحسب، سيتحتم على الحكومات تطوير نظم الرعاية الصحية التي تركز أكثر على وقاية الناس من الأمراض. هذا، كما ينبغي عليهم توفير نظم رعاية صحية ذات كفاءة عالية، مع إيجاد المستوى المطلوب من إشراك القطاع الخاص في هذا المجال».
والواقع أن إصلاحاً بهذا المستوى يشكّل تحدياً ضخماً. ولفهم التغييرات اللازمة، يتعين إلقاء نظرة عامة وافية على أنماط الإنفاق الحالية في هذا القطاع والطريقة التي تتغير بها، حيث يشار إلى أن حكومات الشرق الأوسط تنفق حالياً ما متوسطه 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية، وهو أقل بكثير من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية العام 2009 والبالغ 9.5 في المئة، في حين تصل هذه النسبة إلى 2.5 في المئة في قطر و9.3 في المئة في الأردن. ومع ذلك فإن هذه الأرقام آخذة في الارتفاع نتيجة تطبيق التأمين الصحي الإلزامي وازدياد الأمراض المزمنة. ففي دول مجلس التعاون الخليجي، على سبيل المثال، يرتفع الإنفاق على الرعاية الصحية للفرد بمعدل يزيد عن 5 في المئة سنويًا، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، حيث ازدادت قيمته من 843 دولاراً أميركياً للفرد في العام 2000 ليصل إلى 1224 دولاراً في العام 2010. وفي واقع الأمر، يتم زيادة المبالغ المخصصة لعلاج الأمراض المزمنة: ففي أبوظبي، يُنفق 10.2 في المئة من موازنة الرعاية الصحية على علاج الأمراض القلبية الوعائية و8.6 في المئة على علاج مرض السكري.
ويتجلى النقص في الموارد المتاحة مع إلحاح الطلب على الرعاية الصحية، فنرى أن المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تملك 37 ألف سرير فقط في مستشفياتها، وللوصول إلى مستوى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبالغ 2.8 سرير لكل 1000 نسمة، ستحتاج إلى أكثر من 73 ألف سرير في السنوات القليلة المقبلة. لذا ستسارع العديد من الحكومات لسد العجز من خلال بناء المزيد من المستشفيات وتشجيع القطاع الخاص على القيام بذلك. ومع هذا، فإن الاستعجال في بناء أعداد إضافية من المستشفيات يعرّضها لمخاطر ارتفاع تكاليف التشغيل وانخفاض جودة الرعاية بسبب عوامل عدة، كغياب التخطيط على الصعيد الوطني لتلبية الطلب وندرة الكفاءات.
ويعاني قطاع الرعاية الصحية من نقص حاد في الكفاءات، حيث يتوافر لكل 1000 شخص في دول مجلس التعاون الخليجي 1.8 طبيب و4.3 ممرّضين، بينما يوجد 3.2 أطباء و11.4 ممرّضاً لكل 100 شخص في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وبالتالي، ستحتاج أبوظبي إلى المزيد من الأطباء والممرضين بحيث تصل أعدادهم ما بين 3 آلاف طبيب و6 آلاف ممرض بحلول العام 2020. وما يزيد مشكلة التوظيف تعقيدًا أن غالبية الأطباء والممرضين الحاليين في الإمارات العربية المتحدة هم من الأجانب الذين يصعب الإبقاء عليهم لمدة طويلة. وسوف تواصل نظم الرعاية الصحية مواجهة صعاب في بناء القدرات التي تحتاج إليها إذا خسرت المهارات التي تملكها كل بضع سنوات.
وأفاد غبرائيل شاهين، بوصفه شريكًا في شركة بوز أند كومباني، قائلا «في ظل ندرة الموارد، فإنه من الأهمية بمكان أن تتسم نظم الرعاية الصحية بالفعالية والكفاءة. ويشار إلى أنه في الوقت الراهن، يستهلك تقديم الرعاية (بما في ذلك الاستشفاء والأطباء والأدوية) الجزء الأكبر من الإنفاق، بما يقرب من 80 في المئة من مجموع موازنات الرعاية الصحية». واستطرد قائلا «وبالتالي يعتبر هذا القطاع الأكثر حاجة إلى الإصلاح، حيث يتحتم على نظم الرعاية الصحية ضبط كلفة كل حلقة من حلقات سلسلة الرعاية، وخفض متوسط مدة الإقامة في المستشفى، وكذلك خفض المعدلات العامة للاستشفاء، والتأكد من استخدام أسرّة المستشفيات للغاية التي خصصت لها، فلا يوضع مصابو الأمراض المزمنة في الأقسام المخصصة للأمراض الأخرى».
وأخيرا، لنتمكن من فهم جميع ديناميكيات نظم الرعاية الصحية القائمة، ينبغي علينا مراعاة الفروق بين الرعاية العامة والخاصة. فالحكومات مسئولة حالياً عن توفير معظم خدمات الرعاية الصحية، حيث تساهم بنسبة 65 في المئة من الرعاية في المتوسط وقد تزيد تلك النسبة لتصل إلى 80 في المئة. وبالنظر إلى الثغرات الموجودة في النظم القائمة، تسعى الحكومات إلى زيادة مشاركة القطاع الخاص. ويُعتبر هذا التطور مُرحَّباً به لما للقطاع الخاص من قدرة على تعبئة الموارد واستقطاب الخبرات. ولكن، ينبغي على الحكومات توخي الحذر، حيث ينطوي نظام الرعاية الصحية العام والخاص، وهو نظام «ثنائي المستوى»، على تحديات أكثر تعقيداً من تلك التي يواجهها النظام الذي يقوم على الرعاية الصحية العامة فقط. وعليه سيتعين على الحكومات تنمية القدرات اللازمة لتوفير الرقابة والتنظيم ضمانًا لسهولة الحصول على رعاية صحية تتسم بالجودة ومراقبة التكاليف. فمثلاً، تميل نظم الرعاية الصحية «ثنائية المستوى» إلى فصل الخدمات، فالقطاع الخاص يقدم الخدمات «المربحة» مثل جراحات السمنة المفرطة وعمليات ربط المعدة، بينما يتحمل القطاع العام أعباء الحالات الأكثر تعقيدًا والأعلى كلفةً مثل جراحات الأوعية الدموية وعمليات الزرع.
في ظلّ المهام المتعددة المنتظر من الحكومات المحلية الاضطلاع بها، استجابة للاحتياجات المتغيرة في قطاع الرعاية الصحية التي تتمثل في جذب الكفاءات، وضبط التكاليف، ورفع فعالية نظم الرعاية الصحية القائمة، سيكون عليها بذل جهود منسقة تهدف إلى بناء القدرات المطلوبة لإدارة ديناميكيات نظام الرعاية الصحية «ثنائي المستوى». وفي حقيقة الأمر، لا يوجد هناك وصفات سحرية يمكن تطبيقها على كافة نظم الرعاية الصحية، ذلك أن لكل نظام خصوصياته في مجالات التمويل وتقديم الرعاية والسياسات والتنظيمات. لكن يظل هناك استثمارات ذكية يمكن أن تفيد معظم نظم الرعاية الصحية في المنطقة. وعلى الرغم من أن النظم القائمة ليست شاملة، فإننا نؤمن بأن هذه هي الأسس التي ستُبنى عليها نظم الرعاية الصحية في المستقبل.
إعادة تركيز الأولويات على سياسة الوقاية من الأمراض وكيفية التعامل معها: استأنف جاد بيطار قوله «للعمل على مواجهة التفشي السريع للأمراض المزمنة، تساهم الاستثمارات المعنية بالوقاية من الأمراض في الحد من أعداد المرضى الذين يعتادون المستشفيات وتقليل حالات الوفيات، وتخفيض كلفة كل حالة على المدى الطويل، بالتزامن مع تحسين جودة الرعاية الصحية المقدمة وبالتالي رضا المريض عن تلك الخدمات».
وأشارت دراسات حديثة إلى أن زيادة نسبة الإنفاق على الصحة العامة بمعدل 10 في المئة من شأنه أن يخفض معدل الوفيات الناجمة عن الأمراض المزمنة بنسبة 3.2 في المئة. ويتطلب هذا التحول اتباع نهج مبتكر، يتمثل في إقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص، فضلاً عن إحداث تحوّل في مخصصات موازنة الرعاية الصحية، من حيث منع حدوث الأمراض عوضًا عن علاجها، مما يُمكّن المواطنين من تولي شئونهم الصحية على نحو أفضل. فعلى سبيل المثال، أثبتت مشاريع بعينها كالاستراتيجية الوطنية للصحة المدرسية التي تعمل على تحسين صحة الأطفال من خلال التركيز على التربية البدنية وخدمات التغذية، فعاليتها في مختلف أنحاء العالم، وبدأت في تحقيق تقدم في منطقة الشرق الأوسط. غير أن هذه المشاريع تتطلب التمويل المناسب وشراكات قوية بين جهات عدة مثل وزارة الصحة، ووزارة التربية والتعليم، والمدارس الخاصة
العدد 3460 - الأحد 26 فبراير 2012م الموافق 04 ربيع الثاني 1433هـ