العدد 1449 - الخميس 24 أغسطس 2006م الموافق 29 رجب 1427هـ

خادمة منزل تدعي أنها إنسانة!

لم يخطر على بالي يوماً أن أعمل خادمة منزل في البحرين. في بلدي، حين كنت أذهب مع والدي أحياناً إلى السوق لشراء بعض الحاجيات، كنت ألحظ شاباً يحملق في عيني وكأنه يبحث عن شيء فيهما. كان شعره يتدلى على جبهته ويكاد يلامس رموش عينيه، وكانت ابتسامته تظهر اصفرار أسنانه والمرح الذي يحاول أن يخفيه ليبدو جاداً مفعماً بالرجولة أمامي. يراقبني وكأني مجرمة وكأنه شرطي. ولأول مرة أشعر بلذة الإجرام. نظراته إلى في السوق كانت تتوسد معي في الفراش. قبل النوم أرى عينيه حين أغمض عيني، وأفكر في حياتي التي أتمنى أن تكون جميلة حين تحرسها عيونه.

لم أتوقع منه أن يبادر لطلب يدي من والدي بهذه السرعة. ولكني لم أندم حين تزوجته وعشت معه أحلى الأيام. شاب ظريف وطيب القلب، يذكرني بالأطفال دائماً لأن دموعه سريعة الهطول وخصوصاً حين أمرض أو يؤذيني ضيق الحال. يكره تجهم وجهي ويحب ابتسامتي حتى صرت أغار منها. كان أحياناً يسرق بعض الفاكهة من جاره في السوق ويقدمها إلى كهدية بعد تناول الغداء. يصارحني بالسرقة وسببها، لا يرغب في أن يراني في حاجة لشيء أبداً، حتى لو كانت فاكهة مسروقة. على رغم سرقته، إلا أنه صبور في العمل، يعمل ساعات طوال، ويأتي مساءً ليستريح معي، وأفرح حين أرى ابتسامته، دليل راحته.

والدي ألم به المرض، خفت عليه أن يمضي كما مضت أمي قبل ثلاث سنين، ولذلك قررت العمل مع زوجي في السوق لأحصل على ما يكفي من مال لعلاج أبي. لن أتهاون، لن أفكر في نفسي على حساب أبي. قررت أن أتعب جسدي ليرتاح أبي ومن ثم ترتاح نفسي. لم يكن زوجي يرغب في أن يراني متعبة. يتعبه تعبي، ويتمنى لي الراحة على الدوام، ولكنه لا يملك البديل، يعمل من الصباح وحتى المساء، ولا يستطيع غير ذلك. الحياة قاسية حقاً.

كم سيفرح زوجي حين يعلم أنني حامل. كان ينتظر هذا اليوم. سيصبح أباً، إنها أمنيته التي كان يصارحني بها دائماً. حين أحسست بثقل الحمل تعذر علي العمل وبدأت المشكلة. الطفل يحتاج إلى بعض المال لشراء مستلزماته، ووالدي يحتاج إلى أموال الدواء، وأنا لا أقدر على العمل، وزوجي لا يستطيع العيش كآلة تعمل من دون توقف. زادت الحاجة إذاً، وقل المال لعدم قدرتي على العمل. لا استطيع أن اقترض من الآخرين لضعف حال من أعرف ولعدم قدرتي على السداد أيضاً.

الحمد لله، وضعت ولدي بالسلامة، إنه يشبه أباه تماماً، شعره كثيف وابتسامته جميلة ولكنها لا تظهر أسناناً صفراء لعدم ظهورها بعد. لا أدري لماذا تأخر زوجي، ذهب إلى السوق ليحضر بعض الحلوى للمباركين ولم يأت بعد. تأخر كثيراً فخفت، طلبت من أبي أن يسأل عنه ولكنه لم يكن يقدر على المشي بيسر وخصوصاً بعد أن توقف عن شرب الدواء لعدم قدرتنا على شرائه. ماذا أفعل الآن؟ لا استطيع الخروج الآن وخصوصاً أن جسمي مازال ثقيلاً بعد الولادة. لحظات وجاء الخبر الصدمة. لقد مات زوجي. صدمته سيارة مسرعة وهو عائد للبيت حاملاً الحلوى.

بكيت حتى شعرت بأني سأموت أيضاً ان واصلت ذلك وسيبقى ولدي ووالدي من دون معيل. كان ولدي يبكي كثيراً وكأنه يبكي على أبيه. بعد زوال الصدمة، حل علينا الفقر. يجب أن أعمل، أي عمل وفي أي مكان. والدي يجب أن يحصل على الدواء باستمرار وولدي يجب أن يعيش، إنه يشبه أباه، فكأني أعيش مع زوجي حين أتعب ليعيش معي.

من مكان إلى مكان، ومن فكرة إلى فكرة، لم أحصل على عمل براتب يسد رمقي ويعيش ولدي ووالدي. وأخيراً وجدت الحل. أعمل خادمة منازل في البحرين. فرحت حين علمت أن البحرين ستكون نصيبي، فهي دولة مسلمة، أهلها مسلمون وأنا مسلمة، سيقدرون وضعي الإنساني ويحترمون أنوثتي الضعيفة. سلمت ولدي إلى أختي لتربيته حتى أرجع بعد سنين، وذهب والدي ليسكن مع أخيه في قرية أخرى مجاورة. تشتتت أسرتي بعد وفاة زوجي ولكنها ستلتئم بعد سنوات أرجو أن لا تطول إن شاء الله. هذا هو قدري إذاً، سأذهب إلى البحرين وأرسل راتب كل شهر لأهلي في اندونيسيا. لا يستطيع والدي أن يتوقف عن تناول الدواء المكلف، ويجب أن يتربى ولدي مثل أي طفل آخر، كما كان يتمنى زوجي.

تتألف العائلة من زوجين وطفل في الخامسة من العمر. الأب قليل حضوره في المنزل، والأم تبدو أنها عصبية بعض الشيء، والطفل مشاكس وكثير الحركة. حين دخلت المنزل أول يوم كنت عازمة على إثبات نفسي. صرت أنصت إلى الأوامر وأعمل بجد على رغم أني كنت دائمة التفكير في ولدي الصغير الذي سيتربى من دون أن يرى أمه ولا أباه. يزعجني التفكير في ولدي أكثر من انزعاجي من صراخ صاحبة المنزل. استيقظ من الصباح الباكر ولا أنام إلا بعد الثانية عشرة مساءً، أتعب كثيراً من العمل ومن ملاحقة ابنهم المشاكس. يوماً بعد يوم، صار جسمي يشكو الإنهاك والتعب. تعبت من روتين حياتي ومن سماع الصراخ ومن ملاحقة الطفل الصغير.

لا أدري لماذا لا يشعرون بإنسانيتي؟ تلاحقني عيون صاحب المنزل أحياناً حتى أشعر أنها تريد أن تفترسني فأخاف، أخشى على نفسي، ليس عندي من حام في هذه البلاد البعيدة عن أهلي. ماذا لو مد يده يوماً ليلمسني، ماذا استطيع أن أفعل؟ من سيسمع كلامي؟ بإمكانه أن ينكر ولن يصدق دموعي أحد. حين تراقبني صاحبة المنزل وأنا أؤدي عملي، أخافها، إنها تصرخ وأحياناً ترمي بعض العبارات النابية من دون أن أقدر حتى على النظر إلى وجهها. بيدها أن تمنع عني راتبي الشهري، بيدها أن تضربني حتى، بيدها أن تتهمني بسرقة أي شيء في بيتها وترجعني مرة أخرى إلى المكتب.

لا أريد الرجوع إلى المكتب، لا أريد أن أعيش الذل وأراه يمارس بحق زميلاتي الأخريات. حين دخلت المكتب أول مرة رأيت أحدهم يضرب خادمة جلبها صاحبها لأنها لا تعمل كما يجب كما يقول. ضربوها حتى بكت وتذكرت حينها بكائي حين فقدت زوجي. لم يرحموها أبداً، حتى خلت أنها ليست من البشر في شيء. والله إني لو رأيت حيواناً يضربونه هكذا لرق قلبي إليه.

صرت أعمل بلا أمان، أخشى أن أخطئ ولو من غير قصد، فالعقاب أنواع أقله الصراخ والاستهزاء. ذات يوم جاءت خادمة بيت الجيران لحاجة معينة، تحدثت معها قليلاً حين دخلت المطبخ، وشعرت أنها سعيدة في المنزل الذي تعمل فيه. تمنيت من كل قلبي لو كنت معها في المنزل نفسه. أستغرب حين أرى صاحبة المنزل تصلي أحياناً، استغرب حين أرى زوجها يقرأ القرآن ويغضب لبعض الكلمات النابية التي تخرج من فم ابنه الصغير. هل إسلامهم يختلف عن إسلامي؟ أنا أيضاً مسلمة، أو على الأقل إنسانة يجب احترامي في الإسلام. الإسلام الذي أمر بالصلاة وقراءة القرآن هو نفسه الذي أمر باحترامي، والإسلام الذي نهى عن قول الكلمات النابية من قبل الأطفال نهى عن صدورها من الكبار أيضاً. لا أدري كيف يفهم هؤلاء الإسلام؟ ولا أدري ما معنى الإنسانية عندهم؟ وأسأل على الدوام: هل يحق لي كخادمة أن أتوقع منهم معاملتي كإنسانة؟

العدد 1449 - الخميس 24 أغسطس 2006م الموافق 29 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً