ليس من السهل الكتابة عن «الصحراء العربية». فقد درست هذا الكتاب طيلة عشر سنين، وأصبحت اعتبره كتابا ليس كغيره من الكتب، بل شيئا متميزا من نوعه مثل انجيل. ويبدو لي ان من السخف ان استدير الآن لاحتسب ما فيه من المزايا والنواقص. ولا اعتقد ان هناك رحالة في الجزيرة العربية قبل داوتي مؤهل بما يكفي لمديح الكتاب، ناهيك عن ذمه. وكلما عرفنا أكثر عن جزيرة العرب وجدنا أكثر في الكتاب. وكلما تجولنا اكثر هناك ازداد احترامنا لنظرة المؤلف الثاقبة واحكامه واسلوبه الفني. نسمي الكتاب ببساطة «داوتي»، لانه كلاسيكي، ولا تطرح فيه شخصية المؤلف نفسها على السؤال. والواقع ان هناك ما يشبه الصدمة عندما نعلم ان داوتي شخص حقيقي حي. الكتاب لا يحمل تاريخا، وليس له ابدا ان يشيخ. انه الكتاب الأول والضروري عن عرب الصحراء، واذا لم يشر له دوما ولم يقرأ ما فيه الكفاية، فقد كان ذلك بسبب ندرته الشديدة. فكل دارس للجزيرة العربية يريد نسخة منه.
لكن ليس من حاجة في وقتنا هذا لاطراء داوتي للدارسين. فالكل يعرفه. ولابد أن هذه الطبعة من الكتاب موجهة الى الجمهور، الراغب في قراءة عمل نثري عظيم يسجل تجوال شاعر انجليزي مدة سنتين بين البدو، وربما كان لحكم رحالة معاصر على الكتاب أهمية عند هذا الجمهور وحده. تباحثت في شأن الكتاب مع الكثير من الرحالة، واتفقنا انه يضم الصحراء بكل ما فيها: تلالها وسهولها، حقولها البركانية، قراها، خيامها، رجالها وحيوانها. وكلها منقولة بدقة متناهية، بكلمات وتعابير من الكمال بحيث لا يمكن للذاكرة التفريق بينهما.
انها جزيرة العرب الحقيقية، الأرض بروائحها واوساخها، كما بنبلها وحريتها. وليس في الكتاب اي من العواطف السطحية أو التركيز على ما يفتن، وهي العيوب الأكثر شيوعا في كتب الرحلات الاستشراقية. ان شمولية داوتي ساحقة تماما. وليس هناك ما يمكن حذفه، والقليل مما يمكن اضافته. فقد أخذ كل الجزيرة العربية ساحة له، ولم يترك لمن يخلفه سوى الدور المتواضع الذي يلعبه المختصون. ربما امكن تأليف الكتب عن مناطق بعينها من الصحراء أو بعض من تاريخها، لكن لن يكون هناك ابداً تصوير آخر للكل في زمننا، لأن كل ما يمكن ان يقال عنه قيل فعلاً، ومن استاذ عظيم.
كان هناك انجليز موهوبون كثيرون ترحلوا في الجزيرة العربية وألف أكثرهم كتبا عن ذلك. لكن ليس منهم من جاء بالغنيمة نفسها التي جاء بها داوتي، والفضل في ذلك يعود له من دون مشاركة من احد. وكانت الصحراء قبل اربعين سنة اقل ترحابا بالاجانب مما هي الآن، وكانت تركيا لاتزال قوية هناك، فيما حافظت الحركة الوهابية على شعلة التعصب بين القبائل. وكان داوتي الأول، كمسيحي واوروبي، في كل المناطق تقريبا التي دخل. كما انه كان فقيرا. وجاء وحده من دمشق مع قافلة للحجاج، تركته في مدائن صالح من دون ان تعهد به الى احد. وضرب في الصحراء لابسا ملابس الفقراء المدقعين مسافرا مثلما يسافرون محاولا كسب الرزق عن طريق ممارسة الطب الحديث في مجتمع يفضل الاعتماد على الرقى والتعاويذ.
كان أيضا رجلا مريضا. صحته في البداية كانت ضعيفة كما أن جو الهضبة العربية كان قاسيا، يتناوب فيه البرد القارس والحر القائظ، ويشح فيه الغذاء. ونشأ في انجلترا ذلك البلد الخصيب الوفير الغذاء. ودخل خيام العرب ضيفا، ليشاركهم ضيافتهم اليسيرة، ولادامة نفسه بالنزر الذي كانوا يديمون به انفسهم. وكانوا يجدون ما يكفي لتغذية اجسامهم الهزيلة من حليب الجمال في الربيع، والوجبات المتباعدة من التمر أو اللحم خلال شهور الجفاف، الا ان هذه التغذية كانت بالنسبة إلى إنجليزي تساوي المجاعة. وكانت طعاما خفيفا حتى بالنسبة لشخص قليل الحركة، لكن داوتي كان يجول ابدا، راكبا احيانا من الفجر الى الغروب، ان لم يستمر الى منتصف الليل، في رحلات تعبر أراضي صخرية صعبة وتحت شمس محرقة أو في رياح حادة مرهقة. الترحال في جزيرة العرب أمر متعب حتى في احسن الظروف، مع جيش من الخدم وأفضل ما يمكن من حيوان الركوب والخيام والمطبخ المنقول. لكن داوتي على رغم ضعفه الجسدي واجهه كما يواجهه اهل البلاد، وعاد الى وطنه بغنائم اكثر مما جلبنا كلنا. الصمود الذي ابداه في جهوده رائع تماما.
في مكان ما من الكتاب يقدم داوتي شبه اعتذار عن نواقصه، مسميا الكتاب رؤى رجل جائع ورواية من شخص بالغ الانهاك، مع ذلك يبدو انه سجل كل شيء. كلنا احيانا كانت تنهكنا الصحراء، وبعضنا عضه الجوع فيها، لكن لم ينتصر اي منا على جسده كما انتصر داوتي. وهو يحول ما يلاقيه من المشاق الى فوائد، عندما يعتصر منها على صفحاته ذلك الاحساس بالاجهاد والوحشة الذي سيحيي لكل رحالة الى بلاد العرب ذكرى لحظاته الصعبة هناك. لكن مثل هذه الاوقات، التي تأتي مرارا خلال تلك السنتين الخطرتين، لا تقلل من حدة ملاحظته. ويواصل في اظهاره لنا ظروف قصته واشخاصها وامكنتها من دون أي تراجع في الاهتمام. وهذا ما يعطي شهادة عالية ليس فقط على قوة ذهنه، بل أيضاً لما لجزيرة العرب والعرب من جاذبية لمخيلته ومخيلتنا.
تي اي لورنس
رحالة ومستشرق في مطلع القرن الماضي
العدد 1449 - الخميس 24 أغسطس 2006م الموافق 29 رجب 1427هـ