بعد مضي أسبوعين على توقف الحرب التي شنتها «إسرائيل» على لبنان مازال هذا البلد العربي الصغير الذي كان يلقب في عقد الستينات بسويسرا الشرق الأوسط، يصنع الأخبار. وليس من المنتظر أن تختفي كلمة لبنان من الصحف اليومية في وقت قريب وخصوصاً أن مثل هذه الأنباء سنطالعها باستمرار. توقف الحرب ليس معناه توقف آلة القتل. مع عودة المدنيين اللبنانيين إلى بيوتهم التي أجبرتهم «إسرائيل» على مغادرتها في جنوب لبنان يزداد يوميا عدد القتلى والجرحى نتيجة القنابل العنقودية والألغام التي خلفها الجيش الإسرائيلي.
ونقلت صحيفة «زود دويتشه» الصادرة في ميونيخ عن مصادر لبنانية مقتل أربعة أطفال حين كانوا يلعبون بجسم غريب انفجر لاحقا وكان قنبلة عنقودية. وبحسب معلومات الأمم المتحدة قتل 12 لبنانيا منذ توقف المعارك في تاريخ 14 أغسطس/ آب الماضي. حالما بلغ هذا النبأ المحزن مسمع وزيرة التعاون الاقتصادي والإنماء الألمانية هايدي ماري فيتشوريك تسويل التي أنهت للتو زيارة لبيروت، طلبت بأن يجري تحقيق دولي للتأكد من أن «إسرائيل» استخدمت قنابل عنقودية في عدوانها على لبنان. قبل يوم تفقدت الوزيرة التي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي المشارك في الائتلاف الحاكم الذي تتزعمه المستشارة أنجيلا ميركل، الدمار البالغ الذي ألحقته «إسرائيل» بالضاحية الجنوبية وتحدثت مع سكان في ضاحية حارة حريك مرت عليهم ظروف صعبة جدا خلال الحرب.
وقالت هايدي ماري فيتشوريك تسويل عن الدمار إنه يصعب وصفه. وحين تقدم رجل مسن ليقول لها إن ألمانيا تدعم «إسرائيل» بالسلاح وهذا ما فعلته «إسرائيل» بلبنان لم يعرف هذا الرجل وغيره كثيرون من اللبنانيين أن الوزيرة فيتشوريك تسويل كانت العضو الوحيد في الحكومة الألمانية التي أدانت الحرب وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار كما انتقدت «إسرائيل» وعرضت نفسها لعزلة داخل حكومة أنجيلا ميركل، إذ إن الموقف الرسمي الألماني كان منحازا لـ «إسرائيل» وحمل حزب الله منذ البداية مسئولية بدء الحرب. كما كانت الحكومة الألمانية مثل إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش تأمل بأن تحقق «إسرائيل» أهدافها العسكرية في لبنان وتكسر شوكة حزب الله. لكن باعتراف الإسرائيليين فإن أقوى جيش في الشرق الأوسط لم ينتصر على مقاتلي حزب الله الذين ألحقوا بالجيش الإسرائيلي 119 قتيلا وهو العدد الذي لم تخسره «إسرائيل» في حروبها السابقة ضد العرب. ولأن الدولة العبرية فشلت في الحرب ضد حزب الله ولم تستطع لوحدها تحقيق أهدافها فإنها تسعى إلى الزج بالاتحاد الأوروبي لهدف نزع أسلحة حزب الله.
هذا هو دافع جولة وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في عدد من الدول الأوروبية هي ألمانيا التي كانت فيها يومي الاثنين والثلثاء الماضيين ثم فرنسا وهولندا والنمسا وربما اسبانيا. فرضت في برلين إجراءات أمنية مشددة جدا على زيارة ليفني التي مضت بضعة أشهر على استلامها منصبها وتنتمي إلى حكومة إيهود أولمرت التي وعدت بتحقيق السلام ثم دخلت في حرب. ليفني التي بدا عليها الإرهاق سعيدة للهرب بعض الوقت من «إسرائيل»، إذ إن حكومة أولمرت تواجه ضغوطاً شديدة بسبب سلوك الحكومة في قيادة الحرب. منذ مطلع الأسبوع هناك فكرة عن نوع المساهمة العسكرية الألمانية في قوة (يونيفيل)، إذ تجري مفاوضات في مقر الأمم المتحدة في نيويورك لتشكيل القوة. على الأرجح أن ألمانيا التي تشارك لأول مرة في قوة(يونيفيل) ستشارك بنحو 1200 جندي وبفرقاطات وقوارب حربية سريعة وترغب في أن يكون تفويض الأمم المتحدة للقوة الدولية واضحا يمكن الجنود الألمان من إيقاف السفن المشتبه في أنها تنقل أسلحة لحزب الله وتفتيشها عنوة.
وقالت المستشارة ميركل عند بدء المناقشات إن ألمانيا تساهم من خلال ذلك في حماية أمن «إسرائيل». ويتوقع وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير نهاية المفاوضات في نيويورك قبل نهاية الأسبوع وقال إن الحكومة اللبنانية طلبت من ألمانيا الحصول على مساعدة تقنية لحماية الحدود اللبنانية، والمساعدة لمراقبة الموانئ البحرية والجوية. من المنتظر أن يشارك الاتحاد الأوروبي بسبعة آلاف جندي في مهمة لبنان ويرغب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في وصول عدد جنود قوة(يونيفل) إلى خمسة عشر ألف جندي. في البداية كان الألمان مترددين لإرسال جنود إلى الشرق الأوسط وجاء في النقاش الذي دار في برلين أن السيناريو المرعب عند السياسيين الألمان أن يطلق جنود ألمان النار على جنود إسرائيليين. بينما خشية هؤلاء السياسيين أن يطلق جنود ألمان النار على جنود إسرائيليين إذا حاولوا الاعتداء كعادتهم على المدنيين، فإن خطر إطلاق جنود الجيش الإسرائيلي النار على الجنود الألمان أكبر بكثير لكن لا أحد في ألمانيا يجرؤ على ذكر هذا الكلام.
لم يسبق وأن وطأت رجل عسكري ألماني الشرق الأوسط والآن تريد «إسرائيل» الزج بالألمان والأوروبيين لتحقيق ما عجزت بنفسها عن تحقيقه وهو نزع أسلحة حزب الله ومواصلة الحصار ضده. وقالت ليفني التي عملت سابقا في الموساد: يجب استخدام الوسائل كافة ضد حزب الله. وأضاف السفير الإسرائيلي في ألمانيا شيمعون شتاين بعد ساعات أن القوات المسلحة الألمانية ستبقى زمنا طويلا في الشرق الأوسط كما برأيه أن ضرب حزب الله بجهود ألمانيا والمجتمع الدولي يسهم في تحقيق الاستقرار في المنطقة. قالت ليفني: إذا أخفقنا في ذلك فالمنطقة مهددة بنزاع مماثل للنزاع الأخير. ومن بيروت طالب أنان «إسرائيل» وأطراف النزاع كافة الاستفادة من فرصة وقف إطلاق النار. وفقا لآراء محللين سياسيين هنا ليس من المنتظر أن تستجيب القوة الدولية (يونيفيل) لمطالب «إسرائيل» بمراقبة الحدود اللبنانية السورية كما لن يتوجه الجنود الدوليون إلى جنوب لبنان لينزعوا أسلحة حزب الله. وقالت مصادر الأمم المتحدة إن القوات الدولية ستتوجه إلى لبنان فقط إذا طلبت منها الحكومة اللبنانية ذلك.
وسربت الحكومة الألمانية معلومات لصحف محلية ذكرت أن هدف البحرية الألمانية هو مواصلة الحصار البحري الذي فرضته «إسرائيل» على السواحل اللبنانية. شعرت ليفني كأنها في بيتها فراحت خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيرها الألماني تنتقد إيران وطالبت بفرض عقوبات ضدها لأنها أعلنت مواصلة تخصيب اليورانيوم، وقالت إن الضغط لا يكفي. قبل وصول الوزيرة إلى أوروبا تحدثت معلومات عن وجود خطة إسرائيلية لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. طبعا لم تشر ليفني إلى ذلك فـ «إسرائيل» تلعب دور الضحية لاستدرار عطف الأوروبيين. انتقدت ليفني بصورة غير مباشرة سياسة وزير الخارجية الألماني شتاينماير للتقرب من سورية فهاجمت الرئيس السوري بشار الأسد وحذرته من وضع عراقيل أمام تنفيذ القرار الأممي رقم 1701.
وصف شتاينماير ما ذكرته صحيفة «الأهرام» يوم السبت الماضي بشأن وساطة ألمانية لتبادل الأسرى مع حزب الله أنها تفتقد لكل أساس ونفى تماما قيام بلاده حاليا بدور وساطة كما رفضت ليفني التعليق مشيرة إلى أنها تفعل ذلك حرصا على مشاعر عائلات الجنود. أما مشاعر عائلات المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين فلا تشغل بال أحد. تسيبي ليفني، بنت الموساد تجول هذه الأيام في أوروبا لشرح وجهة نظر «إسرائيل» والتحريض على ضرب حزب الله، وقضاء بعض الوقت بعيدا عن «إسرائيل» المنهكة بعد انهيار سمعة الجيش الذي لا يقهر، ورئيس حكومة وصلت شعبيته الحضيض، ووزير دفاع يتلقى الأوامر من قادة الجيش، وبلد يقوده أناس تحولوا منذ وقت بعيد من ضحايا الهولوكوست، إلى معتدين
العدد 1455 - الأربعاء 30 أغسطس 2006م الموافق 05 شعبان 1427هـ