العدد 3519 - الأربعاء 25 أبريل 2012م الموافق 04 جمادى الآخرة 1433هـ

التقارض من الأكدية في مهنة «الصيران» و«الفخَّار»

ذكرنا في الفصل السابق أن الألفاظ الأكثر ترجيحاً أن أصلها أكدي أو آرامي هي تلك الألفاظ التي ارتبطت بالمهن القديمة، وخصوصاً تلك التي ارتبطت بالطائفة البحرانية، وسنبدأ بالتقارض من اللغة الأكدية وقد اعتمدت في تحقيق هذه الألفاظ على عدد من المعاجم الأكدية أو الآشورية باللغة العربية واللغة الإنجليزية؛ إلا أنني اعتمدت الألفاظ التي تم تحقيقها في أشهر معجم أكدي وأكثرها صدقية وهو Chicago Assyrian Dictionary (CAD) والذي يتكون من واحد وعشرين مجلداً. وفي هذا الفصل سنبدأ بألفاظ المهن التي ارتبطت بالطين والحجارة، وقد سبق لنا أن تناولنا هذه المهن بالتفصيل في فصول «ثقافة العيش» و»ثقافة الطين»، أما في هذا الفصل فسنوضح أصول الألفاظ المرتبطة بهذه المهن.

الرحى والنچاس (النكاس)

اعتمد المجتمع البحريني القديم في غذائه على القمح والشعير ولكن هذه البذور يجب أن تحوّل إلى طحين (دقيق) ليصنع منها الخبز أو جريش وهو طحين به غلظ؛ أي أن البذور مكسرة وغير مطحونة وهو ناتج من عملية الجرش أي تكسير حبات القمح، وقدمت شعوب الحضارات القديمة آلة تعرف حالياً باسم «الرحى» وهي تلك الآلة التي تعمل على جرش وطحن البذور لتحولها إما لجريش أو طحين، وقد عرف العرب هذه الآلة بهذا الاسم منذ فترة ما قبل الإسلام، وقد عثر على بقايا لها في مدينة سار الأثرية تعود لحقبة دلمون (Moon 2005). ومع استمرار استخدام الرحى يصبح سطحها أملس (ناعماً) وتترسب بقايا الحبوب المطحونة وغيرها من المواد تدريجياً على سطحها؛ ما يؤدي إلى امتلاء النتوءات والحفر الصغيرة على سطح الرحى وبذلك فإن الرحى تحتاج إلى صيانة دورية وهذه الصيانة يقوم بها شخص أطلقت عليه العامة في البحرين وشرق الجزيرة العربية اسم «النچاس» (النكاس) وهو الشخص الذي يقوم بإصلاح الرحى و»تخشينها» وتسمى المهنة «النچاسة». ويستخدم النكاس أداة خاصة ذات جهتين حادتين تسمى المنچس (المنكس)، كما يستخدم المطرقة وأقلاماً حديدية ذات أطراف حادّة وأدوات أخرى.

وقد خلت المعاجم العربية في المواد «نكس» و«نقس» و«نجس» من كلمة قريبة من هذا المعنى بينما في اللغة الأكدية نجد الفعل نَكاسُ nak?su بمعنى قطع الصخر أو الحفر فيه أو قطع الحطب أو قطع اللحم أو ذبح حيوان (CAD 2008، v. 11، part 1، pp. 171 - 180) ومنها اسم الفاعل ناكِسُ n?kisu أي القصاب أو قاطع الخشب أو قاطع الصخر أو الحافر في الصخر (CAD 2008، v. 11، part 1، pp. 181 - 180)، ومنها الصفة نَكسُ naksu بمعنى الصخر المقطوع أو المقطع (CAD 2008، v. 11، part 1، p. 196). والدليل المرجّح على أن أصل لفظة «نكاس» من اللغة الأكدية هو استخدام العامة لكلمة منچس بمعنى الساطور الذي يستخدم في تقطيع اللحم من الفعل الأكدي nak?su؛ أي قطع اللحم أو ذبح الحيوان (CAD 2008، v. 11، part 1، pp. 171 - 180).

مهنة الفخَّار وحرق الصيران

من خلال دراسة بقايا المنازل التي تعود إلى حقبة دلمون والتي تناولناها بالتفصيل في سلسلة «ثقافة الطين» يتضح مدى معرفة سكّان تلك الحقبة بطرق تحضير الجصّ والنورة وكذلك حرق الفخَّار في أفران خاصة. هذه المعارف استمرت حتى عهد قريب وهناك رجال عرفوا بتخصصهم في تلك المهن.

الصيران وتحضير الجصّ

الجصّ كلمة استخدمتها العرب للمادة التي تستخدم في البناء وطلي الجدران ولفظة جصّ عربية قديمة، جاء في معجم «تاج العروس» مادة «جصّص»: «الجَصُّ، بالفَتْحِ ويُكْسَرُ ... وهو الَّذِي يُبْنَي بِهِ .. وهُوَ مُعَرَّبٌ، أَيْ لأَنّ الجِيمَ والصّادَ لا يَجْتَمِعَانِ في كَلِمَةٍ عَرَبِيَّةٍ ... قِيلَ: فارِسيُّة الجَصِّ كَجّ بالكَافِ العَرَبِيِّةِ والجِيم، وقِيلَ بالكَافِ الفارِسِيَّةِ ... والجَصّاصُ : مُتَّخِذُهُ»

والمرجّح أن لفظة جصّ من أصل أكدي فهو في الأكدية گصُ ga??u (CAD 1995، v. 5، p. 54).

وقد تعارفت العامة على مهنة تحضير الجصّ باسم حرق «الصيران»، والأصل في لفظة الصيران، ومفردها صار، أنها تعني قطع جذوع النخيل المستخدمة في عملية الحرق، ثم تطورت دلالة اللفظة لتشمل معنى الفرن الذي يحرق فيه الطين وهو عبارة عن حفرة يوضع فيها قطع جذوع النخيل ويرصّ عليها قطع الطين. وقد انتقلت دلالة لفظة الصيران لتشمل معنى الطين المراد حرقه، أما الأصل في المعنى فهي قطع جذوع النخلة، جاء في «تاج العروس» مادة «صور»: «الصَّوْرُ، بالفَتْح: النَّخْلُ الصِّغَارُ، أَو المَجْتَمِعُ، وليس له واحدٌ من لفظه .. وقال شَمِرٌ: (ج) الصَّوْرِ صِيرانٌ». وهذا يعني أن الصيران عند العرب قديماً كانت النخيل، ويبدو أن لفظة صيران من أصل أكدي ففي اللغة الأكدية «صَرو» ?arû تمعنى قطعة من النخلة (CAD 2004، v. 16، p. 115)، أي بالمعنى نفسه الذي تعارفت عليه العامة قبل تغير دلالتها.

الدوغة وصناعة الفخَّار

صناعة الفخّار هي حرفة تصنيع الأواني الفخّارية؛ أي تلك الأواني التي تصنع من الطين والتي يتم حرقها لكي تصبح صلبة. وتعرف الأواني الفخّارية عند العامة بعدة أسماء بحسب الشكل والحجم. وقد بدأت صناعة الفخَّار في البحرين منذ أكثر من 4000 آلاف سنة؛ إذ بدأ سكّان دلمون بتشكيل الطين باليد ثم أخذوا في التطور شيئاً فشيئاً فاستخدمت آلة عبارة عن عجلة تدور تحرك بالقدم وفي أثناء دوران الطين يتم تشكيله ليتخذ أشكالاً مختلفة. وبعد الانتهاء من التشكيل يترك الفخَّار ليجف ومن ثم يوضع في فرن خاص ليتم حرقه. هذه الطريقة استمرت حتى يومنا هذا، يتوارثها الأبناء عن آبائهم، حتى الأسماء المستخدمة في هذه المهنة لم تتغير كثيراً، فقد أطلق الأكديون على الفرن المستخدم لحرق الفخَّار اسم اَدوگُ ad?gu (CAD 1998، v. 1، part ، p. 136)، وهو يعرف حالياً في البحرين باسم «الدوغة» وفي شرق الجزيرة العربية باسم «الدوغة» و»الداغة»، وفي جنوب العراق كذلك يسمى دوغة وفي ليبيا مدينة أثرية تعرف باسم دوغة بها أفران صناعة الفخَّار ويبدو أن الاسم اشتق من اسم تلك الأفران؛ أي الدوغة، وهي لفظة لم نعثر لها على أصل عربي يؤدي المعنى نفسه وربما هي من الأكدية. أما قطع الفخَّار المتكسرة فتسميها العامة في البحرين، وكذلك شرق الجزيرة العربية، «خشف» والجمع أخشوف، وقد كان يستخدم لتنظيف وحك الأيدي والأرجل، وخصوصاً كعب القدم؛ إذ يجعل الجلد نظيفاً وناعماً. وألفاظ الفخّار وردت في المعاجم العربية ولكن يبدو أنها معرّبة؛ إذ إنها ذكرت بأكثر من رسم ولم تأت بمعنى خاص وإنما بمعانٍ عامة، فالفخّار هو الطين بعد حرقه ويسمى أيضاً الخزف والخشف والخصف، جاء في معجم «تاج العروس» مادة «خزف»: «الخَزَفُ معرُوفٌ، وهو : كُلُّ مَا عُمِلَ مِن طِينٍ وشُويَ بِالنَّارِ حتى يَكُونَ فَخَّاراً ... الخَزَفُ، مُحَرَّكَةً : ما غَلُظَ مِن الجَرَبِ ، نَقَلَهُ ابنُ دُرَيْدٍ ، وقال : هي لُغَةٌ لبَعْضِ أَهلِ اليَمَنِ». وفي مادة «خشف»: «الخَشَفُ: الخَزَفُ، يَمَانِيَّةٌ، نَقَلَهُ ابنُ دُرَيْدٍ، كذا في اللِّسَانِ». وفي مادة «خصف»: «والخَصَفُ، مُحَرَّكَةً: لُغَةٌ في الخَزَفِ». وهذه الألفاظ قريبة من اللفظ الأكدي «خَصبُ» ?a?bu والذي يعني قطع من الفخّار أو الطين المحروق (CAD 1995، v. 6، p. 132)؛ أي بالمعنى نفسه الذي تستخدمه العامة في البحرين وشرق الجزيرة العربية.

العدد 3519 - الأربعاء 25 أبريل 2012م الموافق 04 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً