العدد 3523 - الأحد 29 أبريل 2012م الموافق 08 جمادى الآخرة 1433هـ

الامتداد الأكدي والآرامي لألفاظ ثقافة البحر (1)

اشتهر شعب البحرين منذ القدم بصناعة السفن منذ حضارة دلمون، وعلى مر التاريخ استمر أبناء دلمون وأبناء أوال في صناعة السفن. وقد ارتبطت صناعة السفن في بادئ الأمر بالجماعات الحضرية التي سكنت المنطقة قديماً؛ إذ إن القبائل العربية تفضّل الابتعاد عن البحر والصناعات البحرية؛ بل ويتفاخرون بأنهم لم يعرفوا البحر، فكلما كانت القبيلة تجهل البحر كان ذلك دليلاً على أصالتها. يقول الشاعر جرير ممتدحاً نساءً عربيات لم تعرف البحر قط:

ظعائن لم يدن مع النصارى

ولا يدرين ما سمك القراح

تعتبر طائفة البحارنة من الجماعات الحضرية التي توارثت مهن الحضارة في المنطقة ومنها مهنة «القلافة» أو صناعة السفن، وقد اشتهروا قديماً بهذه الحرفة ليس في البحرين فقط؛ بل مناطق أخرى في الخليج، ففي الكويت، على سبيل المثال، يتواجد البحارنة في فريج البحارنة الذي أصبح مدرسة يخرّج أساتذة بنائي السفن حتى أن يعقوب الحجي في كتابه عن صناعة السفن في الكويت يشير إلى أن مفردة «البحارنة» أصبحت مفردة بديلة تعني صانعي السفن (الحجي 2000، ص 175). وقد ذكر محمد التيتون في كتابه عن تاريخ صناعة السفن في البحرين أسماء لعدد من أساتذة بناء السفن الذين هاجروا من البحرين (التيتون 2007، ص 8 – 9 وص 22 - 27)، وبالمثل فعل الحجي في كتابه أيضاً؛ إذ ذكر عدداً من العوائل البحرانية التي هاجرت من البحرين وعملت في صناعة السفن في الكويت (الحجي 2000، ص 170 و174).

هذا لا يعني أن الجماعات العرقية الأخرى التي سكنت المنطقة لم تعمل بهذه المهنة؛ بل تعلمتها وعملت بها؛ إلا أن الحقائق التاريخية تشير إلى أسبقية الجماعات الحضرية، ومنهم البحارنة، في هذه المهنة. هذه الحقيقة لا يذكرها الكاتب عبدالرحمن مسامح في مقاله عن القلافة، ويحاول بصورة ضمنية، أن يربط مهنة «القلافة» بالجماعات ذوي الأصول القبلية في البحرين؛ أي العرب، وذلك من خلال زعمه أن أصل لفظة «قلافة» هي «غلافة» ولأنهم ينطقون، في لهجة العرب، الغين قافاً أصبحت اللفظة «قلافة»، فيقول: «وأقول هنا إنه شاع بين الناس أن أصل كلمة القلافة هو الغلافة بالغين ولعلها جاءت من فكرة تغليف خشب السفينة بمادة القار من الداخل أو الخارج، أو عملية تغليف هيكل السفينة بالألواح الخشبية الطويلة التي تمتد من مقدمتها إلى مؤخرتها ... وربما يكون الأصل في صناعة السفن الخشبية قديماً هو تغليف هيكلها أو إن شئت ضلوعها بالألواح أو ربما تغليفها بمادة القار أو كليهما معاً، كما فعل ذلك سيدنا نوح عليه السلام، وبهذا ورد النص في (الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح السادس ص11) «اصنع لنفسك فلكاً من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن وتطليه من داخل وخارج بالقار» ... وهكذا جاءت كلمة القلافة أو الغلافة من التغليف. ولذلك نرى اليوم خلافاً بين المثقفين من أبناء القلاليف في التسمية فالبعض يصر على أنها بالغين لا بالقاف أي (الغلافة)، والبعض الآخر يجزم على أنها بالقاف لا الغين أي (القلافة)، ولعل السبب يعود إلى ظاهرة القلب في بعض اللهجات العربية المحلية حين تقلب الغين قافاً أو العكس» (مسامح 2009، الثقافة الشعبية، ع 7، ص 69 - 70).

نلاحظ كيف أجهد الكاتب نفسه في البحث عن اللفظة في «سفر التكوين» بينما لفظة «قلافة» قد وردت بالنص في المعاجم العربية، وربما كانت اللفظة من أصل أكدي. يذكر، أن جميع العامّة تنطق كلمة «قلاف» بالگاف، أي «گلاف» وهذه ظاهرة تختص باللهجات الحضرية كاللهجة البحرانية، ففي لهجة العرب تقلب القاف إلى جيم أو غين وسنأتي على تفصيل هذا في فصول لاحقة.

«القلافة» عربية أم أكدية

القلافة اصطلاحاً هي مهنة صناعة السفن، وقد عرف هذا المصطلح منذ القدم بمعنى صناعة السفن، وبما أن السفن في السابق كانت تصنع بطريقة خياطة الألواح بدون استعمال المسامير (راجع سلسلة ثقافة البحر التي نشرت سابقاً) فأصبح الفعل المشتق من المصطلح وهو فعل «التقليف» يعني خياطة ألواح السفينة ببعضها باستخدام الحبال، جاء في «لسان العرب» (مادة قلف): «قلفَ السَّفينَةَ قَلْفاً: خَرَزَ أَلْواحَها باللِّيف، وجَعَل في خَلَلها القارَ نقله الجَوْهَريُّ كقَلَّفَها تَقْلِيفاً، نقله الصّاغانِيُّ والاسْمُ القِلافَةُ ككِتابَةٍ».

ومازال يعرف صانع السفينة إلى يومنا هذا بالقلاف حتى بعد استخدام المسامير الحديدية بقي اسم الصانع مشتقاً من فعل التقليف. وفي واقع الأمر أصل الفعل على ما جاء في «لسان العرب» (مادة قلف) «قلَفَ الشجرة: نزَع عنها لِحاءها»، فعملية التقليف في الأصل هي عملية تقشير الأشجار وهي من أهم العمليات لتحضير أجزاء السفينة. يقول عبدالكريم المرزوق في كتابه «ماضي الأيادي السمراء في منطقة القطيف»: «النجارة وهي القلافة المتعارف عليها عند أبناء الخليج العربي ويسمى صاحب هذه المهنة (القلاف) وقد سرى هذا الاسم إلى وقت طويل حتى عرفت به عوائل عديدة في أقطار الخليج العربي، ولقد جاءت كلمة القلف اشتقاقاً بما تعني الجلف وهو لحاء الشجر، أما القرف فهو لحاء الشجيرات الصغيرة وغير ذلك من الشجر؛ إذ يأخذ النجار بتقشير جلف الشجر ويحسن مظهره قبل وضعه بالطريقة المطلوبة في مكانها فيقال جلف أو قلف، فعرف النجار بالقلاف في الخليج، ومهمته تكمن في قطع الخشب وتلميعه وخرقه لعمل بعض أجزاء من السفينة مثل الدقل والصور والنوافذ والأبواب والدراويز والمحجرات والقباب والشداخة والتخنة والسحارة وكرسي المصحف والقواري وقد استخدموا في هذا المجال: القدّوم، الرنده، المجداع، النقار...وغير ذلك».

ومصطلح القلافة بهذا المعنى يرجّح أنه من أصل أكدي، ففي الأكدية قَل? qalpu تعني تقشير شجرة أو تقشير نبات ما (CAD 199، v. 1، pp. 66 - 67). وإن كان هذا غير كاف لترجيح الامتداد الأكدي لهذا المصطلح فإن عدداً من أسماء أجزاء السفينة والمصطلحات المتعلقة بالسفينة وردت نصاً في المعاجم الأكدية.

السكَّان (الدفة)

السكَّان هو دفة السفينة وهو اللوح السميخ المثبت بعود مؤخرة السفينة، وهو يتحرك يميناً وشمالاً بواسطة عود ممتد يسمى الكانة، وهذا العود متصل بعجلة تتحكم في حركته تسمى (الجرخ). وقد حدث تطور دلالي لهذه اللفظة؛ إذ أطلق السكَّان على العجلة؛ أي الجرخ، وتم استحداث لفظة أخرى تحل محل السكَّان وهي «الدفة».

حالياً يطلق السكَّان على «المقود» وهو ذلك الجزء من العربة (سيارة، طيارة، سفينة ...) الذي يحركه السائق ليتحكم في اتجاه العربة، سواء كان على شكل عجلة أو بأي شكل آخر. ولفظة «سكّان» وردت في المعاجم العربية، جاء في «تاج العروس» (مادة سكن): «السُّكَّانُ، كرُمَّانٍ، جَمْعُ ساكِنٍ وأَيْضاً: ذَنَبُ السَّفِينَةِ، عرَبيٌّ صَحِيحٌ ... وقالَ الأزْهرِيُّ: ما تُسَكَّنُ به السَّفِينَةُ تُمْنَعُ به مِن الحرَكَةِ والاضْطِرابِ».

ولفظة سكّان هي في الأصل من الاسم الأكدي سِكَّنُّ Sikkannu الذي يعني دفة السفينة (CAD 2000، v. 15، p. 246).

الخنّ (عنبر السفينة)

الخنّ هو عنبر السفينة الذي تخزن فيه الشحنة، وينقسم في الغالب إلى ثلاثة أقسام، قسم أمامي (خنّ شراع) يقع تحت الجزء الأمامي من السفينة، وخنّ الوسط (خنّ ميان) وخنّ آخر في مؤخرة السفينة وهو أصغرهم. ولم يرد في «لسان العرب» بهذا المعنى، والمرجّح أنه من الأكدية خِنُّ hinnu بمعنى عنبر السفينة (CAD 1995، v. 6، p. 195).

وشار السفينة

يشير مصطلح وشار إلى السفينة الجديدة التي نزلت للماء للمرة الأولى، ولم ترد هذه اللفظة في اللغة بهذا المعنى، وأقرب ما جاء لمعنى النجارة في اللغة في معجم «تاج العروس» (مادة وشر):

«وَشَرَ الخَشبةَ بالمِيشار، غير مهموز. لغةٌ في أَشَرَها بالمِئْشار، إذا نَشَرَها، والفِعلُ الوَشْرُ، بالفتح».

فربما تأتي الكلمة بمعنى الانتهاء من نجارة السفينة، أو أن أصل المصطلح أكدي، ففي اللغة الأكدية وَشارُ wa?hru تعني عملية تحرير أو تسريح أو إطلاق (شيء ما أو شخص ما) (CAD 2010، v. 20، p. 406)، فربما جاءت لفظة «وشار» من عملية تحرير السفينة أو إطلاقها في البحر.

العدد 3523 - الأحد 29 أبريل 2012م الموافق 08 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً