تجليات القلم الأسير (22)
في سجنهم ذاك لا ينبغي أن تكون إلا جاهلاً لا تعرف ما القلم... القلم جريمة لا تغتفر، الكتابة كالخيانة العظمى... نعم الكتابة خيانة عظمى في حق قادة التجهيل... الأحرف لا يجب أن تقع في لسانك، ولكن من عاش في أحضان الكلمة والقلم لا يردعه الرصاص عنها أبداً، العلم يولد مع مولد كل نفس من أنفاسنا... الكتابة فرض علينا أداؤه في كل آن... ابحث عن قلم في الزنزانة... تلك أمنية الحرية أقرب منها... إذاً لابد من البحث عما يصح أن يكون قلماً... وجدت عصا فرشاة قديمة خلف السيفون... حككتها في الأرض حتى استقامت بريتها كبرية القصب... يبقى توفير الحبر للكتابة، كبداية طريق استخدمت الشاي الفائض عن الحاجة كحبر.
اغمس القلم (عصا الفرشاة) في الشاي وأكتب على الجدار... مستمتعاً بظهور الخط بلونه الشاهي... أمسحه وأعيد الكتابة...ابتدأت تعويد يدي اليمنى على الخط... حتى طوعتها للكتابة... ولكن ليس كاليسرى، فاليسرى هي وسيلتي المعتمدة للكتابة... أشبعت الجدار شاياً ومحواً بقطعة قماش.
أشاهد الخط على الجدار بالشاي وأفكر... نحن بحاجة لحبر أقوى ويثبت... قطعة الألمنيوم بإمكانها أن تكتب على الجدار.... إذاً، في جسدها محتوى الحبر المطلوب... أسكب قليلاً من الماء على البلاط وأحك فيه قطعة الألمنيوم بقوة... تتخلى القطعة عن كمية لا بأس بها من البرادة في الماء... وضعت القلم في بقعة البرادة ورفعته... كتبت في الجدار، كان اللون قوياً مفرحاً يشير بنجاح التجربة.
التجارب علم مختزن.... يكفي أن تكون أسيراً... أما أن تكون أسيراً ويائساً، تلك مصيبة مضاعفة، وبالتجارب المتواصلة توصلنا إلى حبر نتجاوز به قانون التجهيل... دعاء كميل له حاجة ملحة في ليالي الجمعة، له وقع خاص في النفس وله حرارة ذكر متفردة بذاتها. نحن بحاجة لهذا الدعاء... ولكن من أين نجده، إنه مخبأ في صدور الحافظين المتوزعين على الزنازين... نقلنا النسخة الأولى منه على الجدار بجانب «الدك»... وفي قطعة زرقاء من القماش طولها قدمان من العرض في قدم واحد شرعت بكتابة الدعاء... لم تف القطعة الأولى بالغرض... جعلناه في قطعتين متجانستين أخذنا نقرأ كل ليلة جمعة دعاء كميل من القطعتين إما منفردين في الزنزانة وإما جماعياً في «الدك».
هاتان القطعتان كانتا الإصدار الأول... ننقلهما أحيانا من زنزانة لأخرى... ولما انقضى أجل الإصدار الأول ضاعت قطعة منه عند تسليمها للزنزانة (45)، أثناء التسليم باليد خلال النافذة... رأيت بأم عيني القطعة تتقاذفها الرياح خلف الزنزانة... تلك القطعة المحتوية على جهد غال من العمل وعلى نص يقرع شغاف القلب... نعم ها هي القطعة ملقاة هناك... تصلها العين ولا تنالها اليد... أحرفها بادية كالنور... متكورة بين كومة قراطيس، ولا حيلة لدينا للوصول لها... ليت لنا أجنحة تحمل أجسامنا ولو خطوات إليها... ليت لأعيننا مفعول السحر يجذبها إلينا بالنظر.
تلك الحروف النورانية تمر عليها أرجل الشرطة بلا اعتناء ولربما داستها بلا اكتراث... حروف تنفذ إلى غيابة القلب تمسحه بالسكينة والقنوع... إذاً، لابد من إصدار آخر للدعاء... لدي سروال أبيض مزقت آثار الخياطين عليه حتى جعلته قطعة جرداء... وبجهد متبادل بيننا في الزنزانة أنجزنا الإصدار الثاني أفضل من الإصدار الأول. علمتنا التجربة الأولى احتمال فقدان القطعة أو العثور عليها إذاً لابد من تعزيزها بإصدار ثالث ورابع إن أمكن... أجرينا التصليحات على النص فيما فاتنا من النص.
وتم الإصدار الثالث بتعاون لا نظير له... واحد يراقب وآخر يصنع الحبر باحتكاك الألمنيوم بالبلاط، وأنا أكتب في القماش وبقلم صغير صنعناه من أعواد الأذن... قطعنا طرفه كزاوية القلم، فكان قلماً يصعب على الكف التقاطه لكنه ينجز المهمة على أتم وجه.
بعد الانتهاء من الكتابة على قطعة القماش... ننفضها بقوة لتلقي ما عليها من برادة الألمنيوم وتبقي اللون في القماش واضحاً... وكما توقعنا فقدان إحدى القطع صار ذلك... أحد الجيران استعار النسخة منا لقراءتها... لكنه تهاون في إخفائها عن عيون الشرطة... دخل عليهم الشرطي مرة وكانت قطعة القماش ملفوفة على بعضها فوق السرير... قطعة القماش تبدي للعين ما في باطنها من كتابة بالنظر إليها.
رصدت عينا الشرطي قطعة القماش... دخل الزنزانة متعدياً لقطعة القماش... تناولها وافتتحها... ولكونه رئيس النوبة استمر معهم فترة طويلة في الأسئلة عن مصدر القطعة وكيفية حصولهم عليها وكيفية عملها... في النهاية صادرها من حوزتهم... وكان متوقعا أن يبلغ الضابط... ولكن لحسن حظهم كان ذا أريحية ولا يحب أن يبلغ الضباط بتجاوزات سجنائه، ذهبت القطعة الثانية كما كان حدسنا وتوقعنا.
اعتمدنا على النسخة الأخيرة محافظين عليها من أعين الشرطة... فلا جريمة أكبر من وجود أثر للقلم... القلم يستطيع تجاوز حصونهم ومخاطبة من هم في الخارج... ويستطيع البوح بما لا يبوح به الفم... ولأن القلم أقوى من حصارهم بات هو العدو اللدود لهم... ولا تستطيع أصابعي التوبة من منادمة القلم والتحلي بمزايا حديثه الجميل.
وللخط نصيب من حكاية القلم... اليد بحاجة لمداومة تمرين وصقل موهبة... بعد تجاوز مرحلة الخط بالشاي على الجدار صار الخط على سطح الفراش الجلدي الأسود أكثر متعة... تسجد عصا الفرشاة في كوب الماء... تنتصب محملة أطرافها بالماء... وتبدأ الكلمات في السير على الجلد الصناعي... لمعان الماء يعطي للكتابة إحساساً آخر... ولكن أنّى للكتابة البقاء بلمعانها والزنزانة كالتنور مستعرة والجدران تبعث لهبا مضطرماً في أجسادنا.
يبدأ السطر ببريقه المبهج وما إن تنتهي اليد من ختام السطر حتى تضمحل وتزول بدايته شيئا فشيئاً من الوجود... الحرارة مسيطرة في فضاء الزنزانة... لا يمكنك التأمل في سطر من الخط لحظات من دون أن يسلبه سعير الجو من ناظريك... أمرن اليد متخفياً عن عيون ذوي البزات الخضراء،المصحف أمامي أكتب من صفحته في وجه الفراش...
جسد ناحل... بنصف سروال وصدر مكشوف... انعطف على الفراش متكئا على اليد اليمنى معطياً الشمال راحة التحليق في دنيا الحروف... اللحية المرسلة على صدري مبللة بالعرق الكثيف... شعرات لحيتي تساهم بقطرات العرق في الخط... قطرات العرق تقطر من ذقني بحركة تشبه في الفرق بين القطرة والأخرى صوت عقرب الساعة.
هذا الفراش في النهار يتحول إلى سبورة جميلة... وفي الليل يصبح النوم عليه كالنوم على الرمضاء أو النوم على صفيح فوق النار... أغطي سطح الفراش بفوطة سميكة تحجب حرارة جلده الملتهبة... ولكن كوب ماء لا يطفي نار جهنم... فيما بعد أدركنا استفادتنا من دواء يعطونه لنا... دواء لمغص البطن، دواء سائل أبيض ناصع... يصب الممرض من قنينته لنا قليلاً في الكوب ونؤب للوراء راجعين لزنزانتنا.
استخدام هذا الدواء في الخط يجعل الخط فوق الفراش كالخط بالطبشور على اللوح الخشبي (السبورة).
ناظري يجول في الحروف المرصوفة فوق الفراش... البياض الأخاذ يتقافز من جوانب الكلمات... يا نور المستوحشين في الظلم يا عالماً لا يعلم... صل على محمد وآل محمد... شعور دافئ يغمر النفس بالهدوء والسكينة.... جناحان مثاليان يحملاني للتحليق خارج أسوار الزنزانة... كلما ازداد الظلام غلساً كلما نبعت في سريرتي الراحة والدعة... وكأن يداً قديسة تمر بصفاء ذاتها على قلبي.
شارك عضو منتديات الأمل «الطبيب» في منتداه بهذا الموضوع:
عش مع الناس كعابر سبيل، يترك وراءه أثراً جميلاً، وعش مع الناس كمحتاج يتواضع لهم، وكمستغن يحسن إليهم، وكمسئول يدافع عنهم، وكطبيب يشفق عليهم، ولا تعش معهم كذئب يأكل من لحومهم، وكثعلب يمكر بعقولهم، وكلص ينتظر غفلتهم، فإن حياتك من حياتهم، وبقاءك ببقائهم، ودوام ذكرك بعد موتك من ثنائهم، فلا تجمع عليك ميتتين، ولا تؤلب عليك عالمين، ولا تقدم نفسك لحكمتين، ولا تعرض نفسك لحسابين، ولحساب الآخرة أشد وأنكى، هكذا علمتني الحياة
العدد 1416 - السبت 22 يوليو 2006م الموافق 25 جمادى الآخرة 1427هـ