العدد 1510 - الثلثاء 24 أكتوبر 2006م الموافق 01 شوال 1427هـ

النكسة... انفراج رقابي وجدية سينمائية

شيء من الخوف... كثير من الرقابة (2)

منذ بدايات عهد السينما في مصر، سلطت الدولة على انتاجاتها، السياسية خصوصاً، يد الرقابة التي خنقت كثيراً من المحاولات الجادة فيها،وهي التي كانت كفيلة برفعها من المستوى المتأخر الذي تعاني منه اليوم. وطوال عقود ظلت محاولات السينمائيين المصريين في مجال التوعية السياسية متذبذبة لا يحكمها سوى تقلب الحوادث التي تمر بها البلاد، وطبيعة القائمين على الحكم فيها.

في الحلقة الأولى من هذا المقال استعرضنا، بإيجاز، ومن خلال موجز لورقة بحثية قدمها ناجي فوزي، بعض المحاولات السينمائية الداخلة ضمن إطار تشكيل الوعي السياسي وصوغه لدى الجماهير، والتي أجازتها القيادة الحاكمة آنذاك، فيلم «المتمردون» لتوفيق صالح تحديداً. نواصل اليوم الحديث عن المزيد من تلك المحاولات وعن تأثيراتها على الوعي السياسي، وعن ردود الفعل الرقابية تجاه كل منها.

وكما يؤكد فوزي فإن أفضل فترات انتعاش الفيلم السياسي هي تلك التي جاءت إبان حكم الرئيس جمال عبدالناصر التي بدأت العام 1967، حدث حينها تحول كبير في موقف الرقابة على السينما من قضية الوعي السياسي، إذ سمحت السلطات بقدر من الانفراج الرقابي عقب وقائع الهزيمة. وهو تحول اعتبره الباحثون في السينما المصرية، نوعاً من التنفيس، أو التسريب السيكولوجي للغضب الكامن في النفوس، وأشادوا بذكاء القيادة الحاكمة في تشريعه آنذاك، إذ أرادت ذلك لكي تتحول بعض التعليقات اللاذعة والنكات السياسية المحرمة في الشارع المصري إلى حوار مشروع على ألسنة أبطال الأفلام.

«المخربون»... «العيب» والفساد الاجتماعي

هكذا كما يضيف فوزي، ظهرت الكثير من الأفلام المندرجة تحت فكرة غرس الوعي السياسي، تحدثنا في الحلقة السابقة عن احدها وهو فيلم «المتمردون» لتوفيق صالح.

من «المتمردون» ينتقل فوزي إلى فيلم « المخربون» الذي أخرجه كمال الشيخ العام 1967، وعرض في العام نفسه. هذا الفيلم، الذي يقوم ببطولته أحمد مظهر ولبنى عبدالعزيز، يعتبر أول فيلم يشير بوضوح إلى فساد بعض موظفي الدولة، وذلك من خلال قصة مهندس يدفع ثمن نزاهته حين يكلف بمعاينة حادث انهيار مدرسة حديثة البناء، ليكشف النقاب عن أحد أوجه فساد موظفي الدولة في المجتمع المصري.

كذلك عرض في العام نفسه فيلم «العيب» للمخرج جلال الشرقاوي، الذي يتناول الفساد من زاوية مشابهة، إذ يتحدث عن مافيا الموظفين الفاسدين في الدوائر الحكومية.

ويختلف هذان الفيلمان عن فيلم «المتمردون» الذي يقدم إدانة واضحة للنظام الحاكم حينها وينتقد خططه الثورية، في أن الأخيرين ينسبان الفساد في الدولة إلى أفراد معينين وليس النظام الحاكم، معتبرين هؤلاء استثناءً خاصاً داخل المنظومة الإدارية للدولة.

«القضية 68» وإدانة النظام الحاكم

بعدها جاء فيلم «القضية 68» الذي أخرجه صلاح أبوسيف العام 1968 والذي يتناول في قالب كوميدي حكاية صاحب منزل معرض للانهيار على ساكنيه، متردد في اتخاذ قرار بشأن المنزل. صاحب المنزل أو العم منجد، يحب سكان عمارته، إلا أنه ضعيف ومتردد، في مقابل سكان المنزل المتمسكين بشدة بمنزلهم المتهالك.

الفيلم يؤكد أن قيمة حب المسئول لسكان العمارة في مقابل تمسكهم بمنزلهم، لا يمكن أن تتحقق فعلياً إلا باتخاذه لقرار حاسم بتأسيس بناية أخرى يشارك الجميع في بنائها.

وكما يؤكد فوزي، فإن إدانة الفيلم لتجربة التنظيم السياسي الواحد وهو الاتحاد الاشتراكي بدت واضحة للغاية، هذا عدا عن انتقاده للبيروقراطية الخانقة واستغلال النفوذ وتضارب القوانين التي أدت إلى انهيار البيت/ الدولة.

نقد لعبدالناصر، ومصرع الديمقراطية

لعل أحد أكبر تلك الأفلام التي واجهت اعتراضات رقابية، شهرة فيلم المخرج حسين كمال «شيء من الخوف» الذي عرض على الشاشات العام 1969. الرقابة فرضت على الفيلم حصاراً امتد لعامين كاملين لم ير فيهما النور الا بعد تدخل القيادة الحاكمة المتمثلة في الرئيس جمال عبدالناصر آنذاك. اعتراض الرقابة كان بسبب مضمونه الروائي الذي يدور حول زعيم عصابة مسلحة يحكم إحدى القرى الريفية بالحديد والنار، مهيمنا على كل مقدراتها الإنسانية والاقتصادية معاً، إذ وجد موظفو الرقابة حينها أن هذه الشخصية هي بمثابة تعريض بالرئيس جمال عبد الناصر تحديداً.

صالح يناقش العدالة المفقودة

يكتب فوزي أنه في العام 1969 عُرض فيلم « يوميات نائب في الأرياف « للمخرج توفيق صالح، وفيه تناول صالح بشيء من التفصيل قضايا العدالة المفقودة في المجتمع المصري، والديمقراطية المغيبة، بل المقتولة في هذا المجتمع، فضلاً عن الترديين الاقتصادي والاجتماعي لمعظم أعضائه.

ومع أن كلا الفيلمين يدوران في نطاق زمني خارج حاضر زمن العرض (أي ما قبل 1952) إلا أن وضوح الإشارة إلى الديكتاتورية والتسلط والعنف في الفيلم الأول، كان يقابله غموض الإشارة إلى مصرع الديمقراطية وانتفاء العدالة وتردي المجتمع في الفيلم الآخر.

ميرامار

في العام نفسه (1969) تكرر اعتراض الرقابة على فيلم يتناول التجربة السياسية المصرية وواقعها المعاصر (في ذلك الوقت) بالنقد المباشر الجريء، وهو فيلم « ميرامار» لكمال الشيخ، لمهاجمته عددا من نماذج العهد الثوري وبعض رجالاته. طبعاً استدعى الأمر تشكيل لجنة سياسية رفيعة المستوى رأسها أنور السادات، تشاهد الفيلم وتجيز عرضه.

«حكاية الأصل والصورة»

كذلك يشير فوزي إلى الفيلم الروائي «حكاية الأصل والصورة» الذي أخرجه مدكور ثابت العام 1972 عن قصة لنجيب محفوظ، كثالث قصة ضمن الفيلم ثلاثي القصة «صور ممنوعة». على رغم عرضه بعد عامين من وفاة عبدالناصر، التي ختمت فترة الانفراج السياسي، إلا أنه يمكن ضمه إلى أفلام الفترة الماضية لطبيعة الموضوع الذي يناقشه. تشير حوادث الفيلم بصورة غير مباشرة إلى حرب 1967، من خلال استعراض صانعيه للتحقيقات في جريمة قتل لامرأة مجهولة. صناع الفيلم لمحوا إلى أن لجميع الأبطال علاقة بمصرع هذه المرأة متعددة الهوية اسماً وفعلاً، التي ينشر خبر قتلها في الصفحة الأولى إلى جانب نبأ عن إحدى العمليات العسكرية للقوات المسلحة المصرية على الجبهة في مواجهة العدو المحتل.

وبحسب فوزي فلا يمكن تجاهل هذه الإشارة المرئية المقصودة، التي يتكرر ظهورها من دون أي تعليق لا على شريط الصورة ولا شريط الصوت، بل يراها المشاهد تطفو على سطح مياه النيل بصفحتها ذات الخبرين البارزين. المخرج يريد أن ينقل أن هذه المياه نفسها، التي تبتلع هذه الصحيفة حديثاً، هي التي نشربها لنرتوي منها.

يقول فوزي إنه وعلى رغم كل تلك الإشارات لم ينل الفيلم ما يستحقه من بحث في هذه الجزئية متوارية الحساسية، والبعد السياسي الذي لا يمكن تجاهله.

البحث عن الهوية المفقودة

وإلى جانب تلك الأفلام التي اعتمدت الإشارة إلى بعض المظاهر الاجتماعية ذات البعد السياسي، فإن هناك نوعاً آخر من رد الفعل إزاء هزيمة 67، تمثل في فكرة إعادة البحث عن الهوية الحقيقية للوطن المصري.

هنا جاء فيلم «المومياء» العام 1975 الذي أخرجه شادي عبدالسلام، الذي تأجل عرضه ما يزيد على 5 أعوام، على رغم كونه محاولة سينمائية مصرية على درجة عالية من الرقي الفني

العدد 1510 - الثلثاء 24 أكتوبر 2006م الموافق 01 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً