الحب كلمة جامعة لكل المشاعر الإنسانية الايجابية كالطيبة والتفاني والإيثار والكرم والمحاسن، والسلبية منها ليست باستثناء كالغضب والكراهية، والسبب أن الحب هو الخلفية الحقيقية لكل تلك المشاعر وأخص بالذكر (الشره) والعتب والزعل وغيرها، فبدون الحب الخلفية الجامعة لا مكان لتلك المشاعر بمعنى هل تكره شخصاً لا تعرفه؟ أو تعتب على شخص لا توده؟ أو تعتب عليه لأنك لا تحبه أو حتى تستسيغه؟ بالطبع لا إلا أن فلاسفة الفيدانتا يذهبون إلى وصف الحب على أنه أحد أسماء المطلق العظيم، شأنه شأن المعرفة والسعادة والذات الحقيقية كل بحسب موضعه أو الزاوية التي تنظر منها إليه. إذن مهما أوغلنا في المشاعر الإنسانية نجد أننا ندور ثم نعود إلى نقطة البداية وهو الحب حتى عندما نغضب فإننا نترجم استنكاراً حاداً لقطع عهد مجبول بالرضا وموسوم بالقبول اسمه الوئام، كأن تغضب على ابنك لأنه اقترف شيئاً منافياً للنواميس المطلوبة أو فعل شيئاً يسيء إلى عهد الثقة والمحاسنة والود والوئام المتعارف عليهم كجزء من شريعة المجتمع الأخلاقية.
هذا هو الهيكل العام لأعظم صفات الإنسان الربانية الحب، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين الأفراد وفي الجانب العملي تحديداً؛ فإن المعاملة تأخذ طرقاً وأشكالاً مختلفة باختلاف طبائع البشر فمن الناس من تتوافق طبائعهم وقلوبهم فإذا اجتمعوا في حقل عمل أو دراسة أو سفر أو غيرها يصبحون زملاء وأصدقاء حقيقيين خارج مؤسسة العمل ويبدون مميزين في علاقاتهم وتوادهم، هؤلاء الناس يصلحون لتأسيس فريق عمل ممتاز بما يملكون من مودة وقدرات إلا أن الأمر لا يستقيم على هذا النحو مع الجنس اللطيف فقد يجتمع اثنان كفريق عمل ممتاز ويستطيعان هو وهي بما يملكان من مودة وتقارب في الطباع وجلد في العمل على إظهار روح الفريق بجدارة ومهارة فائقة غالباً ما نجد هذه الثنائية في حقول العمل الجماعي كالتدريس والتمريض والمستشفيات؛ بل قد يتحقق الأمر ذاته في مواضع أخرى كخدمات الزبائن في الحقل المصرفي والاتصالات وغيرها.
الحب بين لغة البيان واللسان
إلا أن هذه الثنائية أحياناً لا تقف عند مجرد روح الفريق؛ بل تتجاوزها إلى صداقة متينة وأخص بالذكر العلاقة المدعومة بسنوات طويلة من العمل المستمر والمشمولة ببعض الحياة الاجتماعية المقتطعة من أوقات الدوام لأداء المناسك؛ أو تناول بعض الوجبات؛ أو الراحة وتبادل أطراف الحديث تفرضها ساعات العمل الشاقة المتواصلة كل يوم؛ ما يؤسس لعلاقة قد تنزلق إلى ما يعرف بالحب العاطفي وهنا يأخذ الموضوع أشكالاً وأبعاداً مختلفة أبرز أعراضها التقارب الشديد والحميم والتمسك بالتواصل الاجتماعي؛ أو قد تبرز في أعراض أخرى تتدرج بين الإيثار والعتب؛ أو الحساسية المفرطة، وصولاً إلى الجنوح للغيرة عند أبسط الهفوات؛ أو قد تأخذ منحى آخر كالنفور والجفاء غير المبرر، هذا النفور وتجنب الآخر هو شكل صريح ومحاولة يائسة للتخلص من براثن الحب بعد أن نشبت مخالبه في أحد الطرفين أو كلاهما وهو أول العلامات على أن الحب قد لامس قلبيهما أو قلب أحدهما على حين غرة وبدون سابق إنذار، فعندما يندفع القلب برعونته الغريزية المعتادة يلجم المنطق العقلي الجنوح على هذا النحو فنرى النفور وقد يتطور الأمر أحياناً إلى حدّة وجفاء أشبه بالكراهية ولكن لن يغير هذا من الأمر في شيء سوى تعميق وتمكين مخلب الحب في الجانبين أو أحدهما وهنا تقع المفارقة الكبرى ففي حين يعي الطرفان في قرارة أنفسهم بوقوع الحب يفصحان عن الرفض بشكل سافر وفج ولسان حالهما يقول: «كاد المريب أن يقول خذوني»، وهنا تبقى العلاقة متأرجحة ضمن إطار لغتين؛ لغة البيان ولغة اللسان وقد يكون الاثنان متفقين في الأولى؛ أعنى ضمن إطار ما تمليه عليهم عواطفهما وفي هذا المنحى تبقى العلاقة رجراجة متقلبة فالعواطف غريزية وحساسة وعرضة للمؤثرات ولا تخضع لقانون العقل والمنطق أما إذا بلغت لغة اللسان والإفصاح فالأمور تمسي أكثر يسراً ووضوحاً ويستقيم الأمر بشكل أفضل؛ لأن كل طرف يعرف موقعه جيداً وبدقة من الطرف الآخر وهو ما يسمى بالمكاشفة وهي الشكل الصحيح لتطابق اللغتين البيان واللسان.
أما فى غياب الأخرى ( لغة اللسان) وهو ما يحصل أحياناً يبقى الطرفان في خطين متوازيين لا يلتقيان إلا في جنس العلاقة نفسها (الحب) ولكن بدون إفصاح وهو أسوأ أنواع الحب لأنه أشبه بالمناخ المتقلب أو البحر الذي ليس له قرار.
البرزخ الشفاف
ويبقى أمر بعيداً عن كل أشكال هذا التجاذب والتنافر، قد يبقى الإنسان مديناً لعلاقات الصداقة المتينة والمبنية على المودة والاحترام والتفاني في خدمة الغير وفي هذا الإطار الإنساني الراقي ما فوق علاقة الزمالة العادية من حميمية وود ودون علاقة الحب العاطفي في هذا البرزخ الشفاف. تزدهر أجمل وأرقى المشاعر الإنسانية بين الرجل والمرأة وفي هذا الجو المشحون بالحماس وحب العمل والحميمية في العلاقات يبدع المخترعون والعلماء والمفكرون ويسطر الكتاب والأدباء أرقى الأعمال إلا أننا للأسف الشديد ومن دون قصد ننسب كل نجاحات الرجال دائماً للجنس اللطيف فقط (وراء كل رجل عظيم امرأة) وننسى ونتناسى أمرين في غاية الأهمية الأمر الأول المعاناة التي تصنع أعظم الأعمال ولنا في سيرة الأخوين رحباني مثال حقيقي، والآخر هو الاعتكاف وهو أن يوطن الإنسان نفسه على أمر أو مشروع واحد ويطرح كل ما دون ذلك وراء ظهره ولنا في سير المخترعين والعلماء مثال كمدام كوري وزوجها؛ أو الأدباء والمبدعين أعظم الأمثلة على ذلك إلا أننا نحتاج لحاضنة مثالية لاحتواء هذه القدرات الجبارة متى وجدت، أعني بذلك البرزخ الشفاف الذي دشن في إطاره الرجال الحقيقيين باكورة أعظم الأعمال والاختراعات في التاريخ. إنها العلاقات الإنسانية الفاعلة التي تضفي على الجو العام طاقة إيجابية عالية وتدفع الأفراد نحو آفاق النجاح بجدارة مسطرين بذلك أعلى درجات البطولة والوطنية.
العدد 3584 - الجمعة 29 يونيو 2012م الموافق 09 شعبان 1433هـ